أشرنا في المقال السابق أن الدين الذي اعتنقه الغرب على أنه عقيدة نصرانية سماوية قد تعرض للتحريف والتبديل؛ حتى طمست الوحدانية في أصله عقيدة وشريعة.
وإذا أردنا أن نلقي الضوء على كيفية تحريف العقيدة النصرانية مع بيان أسبابها؛ سنجد أن التحريف قد سار في خطين أساسيين:
1- قضية الألوهية 2- تحريف الأناجيل.
1- قضية الألوهية
إن عملية التحريف التي استغرقت زهاء عشرة قرون -بل نستطيع أن نقول إنها لم تتوقف حتى الآن- بدأت مبكرة حين كان الحواريون لا يزالون على قيد الحياة، كما أنها ابتدأت بموضوع ليس بالهين، وهو القول بأن للمسيح طبيعة إلهية، مع أن سيدنا عيسى عليه السلام- كما تعترف دائرة المعارف البريطانية- [لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي، أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك].
وتتفق المصادر التاريخية على أن اليد الطولى في التحريف كانت لشاؤل “بولس”، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة، مدعيًا أنه “ابن الله” تعالى الله عن ذلك، وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث.
من هو بولس؟
الاسم الأصلي لـ”بولس” هو “شاؤل”، وهو كما يبدو من سيرته شخصية تآمرية ذات عبقرية عقائدية، وقد اشتهر أول حياته باضطهاد النصارى، ثم تحول فجأة ليصبح الشخصية النصرانية الأولى، والقطب الكنسي الأعظم، ومنذ ظهوره إلى الآن لم يحظ أحد في تاريخ الكنيسة بمثل ما حظي به بولس من التقديس والإجلال.
دور بولس في تحريف النصرانية
يقول المؤرخ “ويلز” -وهو من المعتدلين- في كتابه معالم تاريخ الإنسانية في فصل بعنوان “مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع”: [وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من النقاد العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية، وهو “شاؤل الطرسوسي”، أو “بولس”، والراجح أنه كان يهودي المولد، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك! ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود، بيد أنه كان متبحرًا في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية، ومن الراجح جدًا أنه تأثر بالمثرائي، إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية.
ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنبًا إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعًا بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانًا لله كفارة عن الخطيئة، فما بشر به يسوع كان ميلادًا جديدًا للروح الإنسانية، أما ما علمه “بولس” فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن والمذبح، وسفك الدماء طلبًا لاسترضاء الإله].
ولندع الآن كل التأثيرات والثقافات التي عرفها “بولس”، باستثناء واحدة منها هي “لاهوتيات الإسكندرية” التي كان متبحرًا فيها، ومعلوم أن هذه اللاهوتيات هي المدرسة الفلسفية المسماة “الأفلاطونية الحديثة” التي أشرنا إليها سابقًا إلى عقيدتها الثالوثية، وعنها نقل بولس فكرة التثليث، والتعديل الذي أدخله على الأفلاطونية شكلي فقط، فالمنشئ الأزلي الأول فيها يقابله عنده الله “الأب” والعقل المتولد عن المنشئ الأول يقابله عنده يسوع “الابن”، والروح الكلي يقابله “روح القدس”، ثم إنه سار شوطًا أبعد من ذلك، فاستعار من المثرائية فكرة الخلاص، وجعل القربان الضحية هو الأقنوم الثاني “الابن”.
ثم إن الكنيسة أكملت المسيرة، فأضافت إلى فكرة الخلاص فكرة تقديس الخشبة التي صلب عليها المسيح كما يزعمون، وهكذا تتابعت البدع واحدة في إثر الأخرى، وكان نتيجة ذلك أن دفنت التعاليم الأصلية بطريقة تكاد تكون غير محسوسة تحت تلك الإضافات المألوفة.
بهذه الطريقة، وبغض النظر عن الأهداف والدوافع الخفية، هدم بولس عقيدة التوحيد، وأوقع أتباع المسيح فيما كان قد حذرهم منه أبلغ تحذير، واكتسبت تعاليم “بولس” الصفة الشرعية المطلقة بقيام أحد أتباعه بكتابة الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا الحواري.
على أنه من الإنصاف أن نذكر أن الثلاثة القرون الأولى التي تسميها الكنيسة عصر الهرطقة شهدت صراعًا محتدمًا بين أتباع “بولس” و”أثانسيوس” القائلين بالتثليث، وبين منكرة التثليث وعلى رأسهم “آريوس” ، ولم يكتب النصر النهائي للثالوثيين إلا في مجمع نيقية، مع أنهم كانوا أقلية فيه.
هكذا كان رأى القديس أوغسطين [430م] وهو يواجه حملة آريوس على التثليث الكاثوليكي، وقال: [إن كل ما جاء في الأناجيل لا ينبغي للعقل أن يجادل فيه؛ لأن سلطانها أقوى من كل سلطان أمر به العقل البشري].
ولقائل أن يقول: إن الشرائع بما فيها الإسلام لا تخلو من مغيبات أو حقائق لا يستطيع العقل إدراكها، ولكن يدفع هذا القول أن هناك فرقًا بين ما يحكُم العقل باستحالته كالتثليث، وبين ما لا يستطيع العقل إدراكه، والإسلام وإن كان فيه الأخير؛ فإنه يخلو تمامًا من الأول، فليس فيه ما يحكم العقل باستحالته أبدًا.