يمكننا مثلا أن نتصور فريقا من المنصرين يجوب شارع محمد الخامس بالرباط يوزع نسخا من الإنجيل وأقراصا تبشر بألوهية المسيح، وعلى الرصيف الآخر نجد مجموعة من الشيعة الروافض يوزعون بدورهم كتبا وأقراصا يطلبون من خلالها مبايعة عمائمهم وإعطائهم خُمسَ أموالهم، وقد نجد في آخر الشارع أيضا ثلة من الصهاينة يوزعون منشورات يحاولون من خلالها إثبات أحقية “إسرائيل” بأراضي فلسطين وأن القدس هي عاصمتهم الأبدية، أو بعض المارقين من انفصاليي البوليساريو يقنعون المارة بعدالة قضيتهم.. وكل هذا يتم طبعا في جو يسوده التسامح والاحترام المتبادل.
أضحى الحديث عن الحرية الفردية اليوم يحظى بنصيب الأسد في ساحات النقاش الفكري، وشغل طرْقُ هذا الموضوع وقت العديد من الكتاب والصحفيين، فسودت في شأنه المقالات والأبحاث والرسائل، غير أن هذا المفهوم تعرض -للأسف الشديد- لكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب، حيث باتت الدعوة إلى الحرية الفردية وإلى تمتيع كل فرد بحريته الشخصية مطية ووسيلة لوأد الحرية نفسها في كثير من الأحيان، وإلى زعزعة العقيدة الإسلامية، وإغراق الناس في براثين اللذة المحرمة، من زنا وشذوذ وسحاق ومخدرات ومسكرات.. وهلم جرا.
وحتى لا يظن ظان أن هذا الكلام سيق من باب المبالغة أو التهويل نورد هنا مقتطفا من البيان الذي أصدرته جمعية بيت الحكمة بتاريخ 08/01/2010 بخصوص ردّها على فتوى الدكتور أحمد الريسوني جاء فيه: “تجاهل تام لطبيعة المجتمع العصري، المبني على الحق في الاختلاف، وعلى حرية الاعتقاد، وعلى التسامح والاحترام المتبادل، حيث لا مجال للتحريض أو التشهير بالأشخاص أو بالمؤسسات من منطلق إيماني فردي بهدف زرع البغضاء وإشاعة الكراهية وخلق أجواء الإحتقان والتوتر بين الناس، كما لا مجال للسعي إلى محاولة تنميط جميع أعضاء المجتمع في نموذج قيمي وحيد ونهائي مهما كانت طبيعته أو مصدره”. اهـ
كلام صريح لا يحتاج إلى تفسير ولا تأويل، وهو ما يثبت أن هذه الجمعية -على غرار رفيقاتها على درب “النضال!”- مشبعة بالمادية الغربية التي تؤسس مرجعية واضعي مبادئ اتفاقية حقوق الإنسان، وهي تسعى اليوم سعيا حثيثا وراء التطبيق العملي لهذه الاتفاقيات على أرض الواقع لبناء أسس المجتمع الحداثي الذي سيبنى -وفق تصورهم- على أنقاض الهوية ومنظومة القيم والشريعة الإسلامية.
لكن من حقنا نحن أيضا في هذا المقام أن نتساءل عن كنه هذا المشروع الحداثي الذي يبشروننا به؟ وعن إفرازاته وتجلياته على الساحة الوطنية؟
أهو المشروع الذي يسوي بين المسلم والنصراني واليهودي والبوذي في حرية التدين وممارسة الشعائر مثلا، ويعطي للجميع الحق في الدعوة إلى دينه ونحلته ومذهبه، حيث يمكننا أن نتخيل مثلا أن جمعا من المصلين خرج يوما من مسجد الحسن الثاني بعد صلاة التراويح، فصادف خروجُه خروجَ بعض البوذيين من معابدهم، أو نصارى من كنائسهم، أو يهود من بِيَعهم، التي رخص لأتباعها في بنائها بموجب مبادئ التعايش وحرية الاعتقاد فتتلاقى الجموع في جو من الوُد والحب، دون أن يحس المسلمون بنفور من هؤلاء المغاربة الذين ارتدوا عن الإسلام بسبب دعوة أصحاب المعتقدات المذكورة.
أو يمكننا مثلا أن نتصور فريقا من المنصرين يجوب شارع محمد الخامس بالرباط يوزع نسخا من الإنجيل وأقراصا تبشر بألوهية المسيح، وعلى الرصيف الآخر نجد مجموعة من الشيعة الروافض يوزعون بدورهم كتبا وأقراصا يطلبون من خلالها مبايعة عمائمهم وإعطائهم خُمسَ أموالهم، وقد نجد في آخر الشارع أيضا ثلة من الصهاينة يوزعون منشورات يحاولون من خلالها إثبات أحقية “إسرائيل” بأراضي فلسطين وأن القدس هي عاصمتهم الأبدية، أو بعض المارقين من انفصاليي البوليساريو يقنعون المارة بعدالة قضيتهم.. وكل هذا يتم طبعا في جو يسوده التسامح والاحترام المتبادل.
أو أن نتخيل أيضا مجموعة من الشواذ والسحاقيات يجوبون إحدى شوارع مدننا فيصادفون ثلة من طلبة القرآن والعلم الشرعي، فيلقي بعضهم على بعض السلام في جو يسوده الوئام والتعايش والأمان.
أو أن يصبح الفرد رجلاً كان أم أنثى أم خنثى هو الوحدة الرئيسية للنسيج الاجتماعي لا الأسرة، -كما هو الحال تماما في الغرب-، وتصبح المرأة لا تعني بالضرورة الزوجة أو الأم.. بل العشيقة أو الصديقة أو الخليلة.. والرجل يعود بعد ذلك في غنى عن الزواج وإقامة الأسرة كوحدة اجتماعية، لأن حاجاته الغريزية ستقضى دون تبعات أو مسؤوليات تلقى على عاتقه، وله الحرية التامة في التنقل بين امرأة وأخرى، أو أن يلوط برجل من جنسه إن راق له ذلك، كما أن المرأة حرة هي الأخرى في التنقل بين رجل وآخر، أو أن تمارس السحاق مع بنات جنسها، بشرط وحيد وفريد، هو التراضي بين الأطراف.
وكل هاته الأفعال ستتم طبعا تحت غطاء احترام الحرية الفردية!
أليس هذا هو قمة الحمق والسفاهة؟!
كيف لنا أن نهدم منظومة قائمة بأخرى لا تكاد تكون متحققة إلا إذا تم هدم مؤسسات اجتماعية أساسية كالأسرة والأبوة والأمومة؟
ألا يخجل من يطالبنا بالتخلي عن وحدتنا الدينية، ومنظومة قيمنا وأخلاقنا التي مصدرها الوحي المعصوم، أن نستبدلها بنتاج عقول فلاسفة الغرب؟
كيف لنا أن نترك المقدس ونستعيض عنه بالمدنس؟
لقد باتت مسألة الحرية الفردية تشكل اليوم مرحلة من مراحل التدافع بين المرجعية الدينية المستندة على كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم سلفها الصالح، والمرجعية العلمانية المستندة على الفلسفات الغربية المادية الإلحادية، والمرجعيتين هما كما وصفهما من استضافته القناة الثانية في برنامج “مباشرة معكم”، حَكيم فرنسا العلماني محمد أركون في كتابه -الفكر الإسلامي قراءة علمية-: “طريقين مختلفتين في الإدراك والوعي والتفكير والعمل والخلق والمعرفة”.
أظن أن كل مغربي مسلم عاقل باستطاعته التمييز بين الحق والباطل في هذه المسألة، وبوسعه أن يدرك بما أوتي من علم ومعرفة أي المرجعيتين يجب أن يتبنى ويدعم.