منهج السَّلف الصالح في التعامل مع نصوص الوحي

لقد ضرب الصَّحابةُ رضي الله عنهم أروعَ الأمثلة في منهج التعامل مع نصوص الوحي؛ وسجلت لنا كتب السير والتراجم والتاريخ نماذج كثيرة تربو عن الحصر؛ تبين لنا كيف كان سلفنا ينقادون لنصوص الوحي بالتَّسليم والإجلال ومن ذلك:
لمَّا نَزَلَ تحريمُ الخمر، وقرأ عليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الآيات في ذلك، وبلغ قولَه تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، قال عمر رضي الله عنه: «انتهينا انتهينا» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
ثم نادى المنادي في المدينة: ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت. فسارع النَّاسُ إلى جرَّار الخمر في بيوتهم فكسروها، حتى جُرَّت في سكك المدينة( )؛ قال أنس رضي الله عنه: «فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرَّجل» (رواه البخاري)، ولمَّا نزلت آيةُ الحجاب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شَقَقْنَ نساء الأنصار والمهاجرات مروطَهنَّ( ) فاختمرنَ بها( ).
ولما أُخبر الصَّحابة رضي الله عنهم بتحوُّل القبلة نحو الكعبة «وكانت وجوهُهم إلى الشَّام، استداروا إلى الكعبة»( ) مباشرةً وهم في الصَّلاة.
وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الذَّهب في يد رجل أخذه منه وألقاه، ولما ذهب النَّبيُّ قيل له: خذْ خاتَمَك انتفع به. قال: «لا والله، لا آخذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم»( ).
ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا يُنفق على مسطح بن أثاثة رضي الله عنه؛ لكلامه في ابنته عائشة في حادثة الإفك فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه: «والله لا أنزعها منه أبدًا» (رواه البخاري 4750).
ولما أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المغيرةَ رضي الله عنه أن ينظر إلى المرأة التي خطبها، تَرَدَّدَ أهلُها في الأمر وكرهوا ذلك، فسمعت ذلك المرأةُ وهي في خدْرها، فقالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإنِّي أنشدك»؛ أي: أسألك بالله أن لا تنظر إليَّ. (رواه ابن ماجه وصححه الألباني في غاية المرام 1/142).
ولما طلب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أهل بيت من الأنصار أن يزوِّجوا ابنتَهم من جُلَيْبيب رضي الله عنه تردَّدَ أهلُها في تزويجه، فقالت الفتاة: «أتريدون أن تردُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه» (رواه أحمد وابن حبان وإسناده صحيح).
ولما كان عبدُ الله بن رواحة رضي الله عنه ذاهبًا إلى المسجد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: اجلسوا. فجلس مكانه خارجَ المسجد حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله»( ).
وسعد بن عبادة رضي الله عنه لما بلغه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير دور الأنصار: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير». وجد في نفسه وقال: خلفنا. فكنَّا آخرَ الأربع، أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكلَّمه ابنُ أخيه سهل فقال: أتذهب لتردَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، أوليس حسبك أن تكون رابعَ أربع؟! فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحلَّ عنه. (رواه مسلم 2511).
وعليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- يمسح ظاهرَ خُفَّيْه ويقول: «لو كان الدِّينُ بالرَّأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خُفَّيْه» (رواه أبو داود وصححه الألباني في الإرواء 1/140).
ورافعُ بن خديج رضي الله عنه يقول: «كنَّا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثُّلُث والرُّبع والطّعام المسمّى، فجاءنا ذات يوم رجلٌ من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا( )، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا» (رواه مسلم 1548).
وسكبت جاريةٌ لعليّ بن الحسين -رحمه الله ورضي عنه- الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجَّه، فرفع رأسَه إليها، فقالت: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}.
قال: قد كظمت غيظي.
قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفوت عنك.
قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة. (تاريخ دمشق 41/387).
وقد التزم سلفُ هذه الأمَّة هذا المنهج الذي كان عليه الصَّحابة؛ فكانت حالُهم قائمةً على التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة وتلقِّيها بكامل الرِّضا؛ «فكان من الأصول المتَّفَق عليها بين الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان أنَّه لا يقبل من أحد قطّ أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده». (مجموع الفتاوى 13/28).
قال ابنُ القَيِّم رحمه الله: «وقد كان السَّلفُ يَشتدُّ عليهم معارضةُ النُّصوص بآراء الرِّجال، ولا يُقرُّون ذلك». مختصر الصواعق المرسلة (3/1062).
هذا هو حالُ السَّلَف؛ «فالسُّنَّةُ أجلُّ في صدورهم من أن يقدِّموا عليها رأياً فقهيًا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالاً صوفيًّا، أو تناقضًا كلاميًّا، أو قياسًا فلسفيًّا، أو حكمًا سياسيًّا؛ فمَن قَدَّمَ عليها شيئًا من ذلك فبابُ الصَّواب عليه مسدودٌ؛ وهو عن طريق الرَّشاد مصدودٌ» (حادي الأرواح ص:8).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *