مسألة العلاقة بين الدين والسياسة هي أبرز نقاط الخلاف بين الإسلام والعالمانية. وعلى خلاف ما يشيع العالمانيون.. فإنهم يتلقون في العالم الإسلامي هزيمة تلو الأخرى تجبرهم على التراجع خطوة بعد خطوة، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن العالمانية في الغرب اضطرت إلى التراجع عدة خطوات لإفساح المجال لوجود الدين بجوارها؛ حتى لا يظهر الغرب في ثوب اللادينية المحضة في مواجهة دين حيوي كالإسلام.
يظهر هذا بوضوح إذا تتبعنا طموحات العالمانية في بدايتها وواقعها؛ فقد كانت العالمانية التي يطلقون عليها بأنها: “ضد الدين” هي الأكثر شيوعًا وانتشارًا، وهي: العالمانية التي أرادت القضاء على الدين، وأطلقت عليه وصف: “أفيون الشعوب”!
وبعد فترة وجيزة خفت صوت هذه العالمانية الإلحادية حتى في أبرز معاقلها: “الاتحاد السوفيتي”، لصالح العالمانية اللادينية التي تنادي بـ”فصل الدين عن الحياة”!
ومع هذا.. فقد اضطرت هذه العالمانية إلى التجمل اللفظي -على الأقل- بتحوير شعارها إلى: “فصل الدين عن السياسة”، على اعتبار أن كلمة سياسة لا تحمل في طياتها عند السامع معانٍ شريفة تجعله ينفر من تصور عيش الإنسان فيها بعيدًا عن دينه.
بل إن هذا التحوير اللفظي كان له دلالته في التطبيق العملي حيث أقرت النظم العالمانية بإمكان اعتبار الدين في العلاقات الاجتماعية ذات الاعتبار الخاص في الدين، وهو أمر الزواج وتكوين الأسرة، أو ما يسمونه: بـ”الأحوال الشخصية”.
ومع هذا.. اضطرت العالمانية إلى إفساح المجال أكثر أمام الدين؛ لاستثمار جانبه الوعظي، ووعده ووعيده الأخروي في الوصول إلى درجة التزام أكبر ببعض السياسات التي يمكن أن تلقى قبولاً في دين الأفراد.
وهذه هي النقطة التي يناضل العالمانيون عليها -لا سيما في بلادنا- وهي: “عدم محاربة الدين”، بل استثماره وإخضاعه للسياسة، وهذا التراجع من قِبَل العالمانيين ربما يكون قد جاوز سقف طموحات رجال الدين في أوروبا.
ولكن العجيب أن يعتبره بعض المنتسبين إلى الدين أو الدعوة من المسلمين فتحًا مبينًا، ويتحركوا في اتجاه العالمانيين؛ ليلتقوا عند منطقة وسط بمحاولة إفساح المجال للتجارب البشرية في مسائل التشريعات العامة تحت دعوى الاجتهاد، أو التجديد، أو السعة والمرونة، أو غيرها.. بل ربما تعدى الأمر أبواب التشريع إلى أبواب الاعتقاد بمحاولة تقليل كم القضايا الاعتقادية الغيبية التي تثير حفيظة العالمانيين.
بيد أن العالمانيين بحكم الانتهازية السياسية -التي تكاد تكون قاسمًا مشتركًا بين كل العالمانيين تقريبًا- يسييسون الدين بأقصى درجة متى احتاجوا إلى ذلك، وليس أدل على ذلك من “دولة إسرائيل”؛ التي تمارس حربًا دينية ضروسًا مع المسلمين؛ بينما تدير شئونها الداخلية بنظام عالماني يكاد يصنف ضمن العالمانيات المتطرفة!
كما أن الدول الغربية التي خرجت العالمانية مِن عندها لا تستحي أن تصف حربها مع الإسلام بأنها: “حرب صليبية جديدة”، وتخالف مقتضيات العالمانية من الحرية الشخصية ونحوها في حربها لمظاهر وجود إسلام في بلادهم: كالمآذن والحجاب. وتفضـَّل “أوباما” علينا بأنه ليس ضد الحجاب؛ شريطة أن تختاره المرأة بعد أن تنال حظها من العلم! حتى اعتبر البعض هذا التصريح فتحًا -مع أنه من أخبث ما يكون-! فإنه لا يسمح لنا بحجاب نسائنا حتى نعلمهن، وبالطبع هو لا يعني أن نعلمهن الكتاب والسنة، وأدلة فرضية الحجاب، وإنما يعني أن نعلمهن التعليم المدني الذي يُعلي مبادئ العالمانية!
وعلى أي فإن العالمانيين لا يكفون عن تسييس الدين وتوظيفه في الوقت الذي يستنكفون فيه عن اتباعه والانقياد له.
وليس العجب من هؤلاء الذين يعرفون أن دينهم المحرف سوف يجعلهم يتركون أسباب التداوي؛ ليحصلوا بدلاً منها على بركات الأحبار والرهبان، وينخلعوا من أموالهم؛ لأنه لا يمكن أن يدخل غني الجنة مهما بلغ صلاحه إلا بالانخلاع من جميع ماله إلى غير ذلك مما لا يطبقه أحد من البشر، ولا حتى رجال الدين الذين حرَّموا على أنفسهم الزواج المباح في دينهم، واستعاضوا عنه بانتهاكات تتصاعد فضائحها حينًا بعد حين، وتدفع لها التعويضات بالملايين!
ولكن العجب من العالمانيين المنتسبين إلى الإسلام بتشريعاته الكاملة الشاملة الذين يصرون -أيضًا- على رفع شعار: “لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين”؛ حتى يهربوا من الالتزام بالأحكام الشرعية فيما يسوسون الناس به؛ بينما يمارسون أقصى درجات توظيف الدين أو تسييسه!
فعندما أرادت الأمم المتحدة أن تحارب التدخين في سِن الطفولة؛ أصدرت القوانين لمنع بيع السجائر لمن هم أقل من 18 سنة على اعتبار أن التدخين ضرر وحرام، وهذا حسن، ولكن ديننا يحرم على الفرد أن يضر نفسه صغيرًا كان أو كبيرًا، ويلزم المجتمع أن يغير المنكر حتى وإن فعله صاحبه اختيارًا.
ومِن وسائل تغيير المنكر: التغيير باليد، وأولى من يقوم بذلك السلطات الحاكمة أي أصحاب السياسات، فضلاً أن سن البلوغ عندنا ببلوغ الحلم وليس ببلوغ ثمانية عشر عامًا.
ومع هذا وجدنا فتاوى تحرم التدخين عند السن الذي رأى أهل السياسة -وهي هنا السياسة الدولية- أن يجرموه، ونسبت هذا إلى الإسلام، وامتنعت عن الكلام عما امتنع أهل السياسة عن الكلام فيه، وهي صورة فجة من تسييس الدين أو إخضاعه للسياسة واستدعائه عند الحاجة.
وربما استدعى بعضهم الدين؛ لكي يبرر ما ينافيه، والأمثلة على ذلك كثيرة: كإصدار الفتاوى المبيحة لتعاملات البنوك، أو إطلاق يد غير المسلمين في إقامة معابدهم في بلاد الإسلام؛ فضلاً عن تبرع المسلم لها!
والنماذج لا تُحصى كثرة لهذا “التسييس” المجحف للدين رغم إعلانهم المستمر رفض تسييس الدين.
ونحن معهم نرفض “تسييس الدين” بمعنى: استخدامه تابعًا للسياسة، وخادمًا لأغراضها سواء كانت سياسة دولة أو حزب أو فرد، ولكن لا ننادي مثلهم: “بفصل الدين عن السياسة”، وإنما ننادي: بـ”إخضاع السياسة للدين”؛ بدلاً مما يجري الآن في كل وادٍ من إخضاع الدين للسياسة.