نووي إيران في ميزان المصلحة الأمريكية إعداد: مصطفى الونسافي

يجمع المراقبون السياسيون على وجود ثلاثة أهداف تسعى الإدارة الأمريكية لتحقيقها في منطقة الشرق الأوسط، وهي: أمن الكيان الصهيوني، والحصول على النفط، ومحاربة الإرهاب؛ لكن خلافهم يبقى حول أولويات هذه الأهداف وترتيبها، والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيس الذي عبر عنه الرئيس السابق جورج بوش في خطابه في احتفال البحرية الأمريكية في فلوريدا يوم 13/2/2003، بقوله: “نرغب أن نكون بلدا فوق الجميع”.
هذه الثلاثية في الأهداف نابعة من الشخصية الأمريكية التي جرى تشكلها عبر التاريخ الأمريكي منذ قدوم المهاجرين الإنجليز ونزول الرجل الأبيض على شواطئ ما عُرف فيما بعد باسم أمريكا، حيث شكلت ثلاثية “المال والقوة والدين” الشخصية الأمريكية على مدار التاريخ، وعند تطبيق معالم الشخصية الأمريكية تلك على أهداف الإدارة الأمريكية بالنسبة للشرق الأوسط، تتجلى هذه الثلاثية بشكل قاطع.
فالتراث الديني في أمريكا يستمد أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا، والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر، وأسهمت هذه الحركة في بعث اليهود من جديد، وبذلك نفهم الحرص الأمريكي على وجود الكيان الصهيوني، أما القوة الغاشمة الأمريكية وحرب الإبادة التي شنها رعاة البقر الأمريكان على السكان الأصليين من الهنود الحمر، فتتجلى بشكلٍ صريح في الحرب التي تشنها اليوم على ما تسميه “إرهابا”؛ أما حبّ المال والسيطرة على مصادره، فإن تجلياتها الحديثة تظهر في حب السيطرة على منابع النفط وطرق الوصول إليه.

ولكن ما هو موقع إيران من تلك الأهداف الأمريكية؟
بالنسبة للنفط فإن إيران من كبار منتجيه في العالم، علاوة على قربها من المنتجين الرئيسيين في المنطقة، كما تطل بشواطئ طويلة على الخليج؛ ومع وجود قوات بحرية قوية، فإنها تستطيع تهديد مرور ناقلات النفط في الخليج، وسبق أن هددت بذلك في بعض التقارير العسكرية التي أقرت بها، حيث أفادت طهران بامتلاكها غواصة لا يستطيع الرادار كشفها، كما أنها دأبت على تصنيع توربيدات محلية الصُنع قد تسبب أرقا للبحرية الأمريكية في مياه الخليج الضحلة، هذا بالإضافة إلى ترسانة صواريخ أرض-أرض التي تمتلكها، والممثلة بتوليفة صاروخية ذات تقنية روسية-صينية، إضافة إلى محلية الصنع وعلى رأسها صواريخ “شهاب”.
فيما يخص الكيان الصهيوني فإن من ضمن الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية “الحفاظ على أمن إسرائيل”، وإيران تمتلك الكثير من المؤهلات العسكرية والبشرية والتقنية، ما يجعلها ندا إقليميا للكيان الصهيوني.
أما “محاربة الإرهاب” فوجود إيران كمَعْبرٍ من أفغانستان إلى العراق يشكل هاجسا مهما بالنسبة لأمريكا التي تخوض حربا ضروسا مع التنظيمات الجهادية، والتي تنشط بشكل مكثف في كلا البلدين، وتغرق الجيوش الأمريكية في تلك المناطق حتى أذنيها! فضلاً عن التواجد الشيعي في كل من هذين البلدين.

فأين يقع السلاح النووي الإيراني إذن في الاستراتيجية الأمريكية؟
باستعراض ما سبق نجد أن أمريكا تنظر إلى إيران بحجمها الاستراتيجي باعتبارها قوة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال، ولذلك فإن البيت الأبيض يمكن أن يغض الطرف عن مستوى معين في التسليح النووي الإيراني، وذلك من عدة منطلقات:
أولا: أن القوة الإيرانية لم تلحق في يوم من الأيام ضررا بالرصيد الاستراتيجي الأمريكي، بل كانت دائما تعزيزا له وتكريسا لوجوده.
ثانيا: أن المعلومات المتوفرة تدل على أنّ أمريكا نفسها أسهمت بشكل ما في البرنامج النووي الإيراني، فقد أشار تقرير لعروض الصحف البريطانية أذاعته BBC -نقلا عن صحيفة الغارديان- تحت عنوان “حماقة C.I.A التي ساعدت برنامج إيران النووي”، والذي تحدث عن كتاب لمراسل صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية لشؤون المخابرات، جيمس رايسن، بعنوان “الحرب على الإرهاب: التاريخ السري لـC.I.A وإدارة بوش”.
ونقلت الغارديان عن الكتاب أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما ساعدت إيران في تصميم قنبلة نووية من خلال محاولة فاشلة لتسريب معلومات سرية مضللة تتعلق بتصميم قنبلة نووية إلى إيران.
ويورد الكتاب أن العملية السرية التي سميت “ميرلين”، والتي وافقت عليها إدارة الرئيس بيل كلينتون، ارتدّت على نحر المخابرات الأمريكية عندما قام عالم روسي منشق كان يعمل في برنامج نووي سوفييتي يتعاون مع C.I.A، كُلّف بتسريب تلك المعلومات النووية السوفييتية التي تلاعبت بها المخابرات الأمريكية إلى الإيرانيين، (قام) بإعلام المسؤولين في طهران مطلع عام 2000 بوجود معلومات غير صحيحة في البيانات التي حصلوا عليها؛ ويقول المؤلف بحسب BBC: “إن الهدف الأمريكي كان توجيه العلماء الإيرانيين الذين يعملون على تطوير سلاح نووي إيراني نحو طريق مسدود يصلون إليه بعد سنين من العمل الشاق غير المثمر، وبدلا من ذلك، فقد أسهمت العملية الفاشلة في تسريع تطوير إيران لبرنامجها النووي”.
وتتحدث الديلي تيليغراف عن الموضوع نفسه في مقال بعنوان “أيدي C.I.A الخرقاء تسلم الإيرانيين دليلا لصنع قنبلة نووية”، لكنها تورد فشلا استخباراتيا أمريكيا آخر، على حد تعبير رايسن، وقع عام 2004، حيث يقول في كتابه: “إن ضابطا في C.I.A سلم عن غير قصد عبر رسالة مشفرة أحد العملاء الإيرانيين -الذي تبين لاحقا أنه عميل مزدوج يعمل أيضا مع المخابرات الإيرانية- معلومات أدت إلى إلقاء القبض على كافة العملاء المتعاونين مع C.I.A في إيران”؛ ويرى رايسن أن C.I.A ارتكبت أكبر حماقة في تاريخها الحديث مع إيران.
ولكن من السذاجة تصور أن وكالة المخابرات الأمريكية بهذه الغفلة، بحيث تمد إيران بمعلومات مغلوطة عن السلاح النووي، أو أنها تكشف عميلا لها للمخابرات الإيرانية.
ثالثا: تاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية لا يوحي بذلك التنافر الحقيقي، وإن كان تبادل الاتهامات والحملات الإعلامية هو السمة البارزة في العلاقات بين الطرفين، ولكن متى كانت السياسة هي العلاقات الظاهرة في العلن، خاصة في منطقتنا؟ فالبَلدان يتمتعان بعلاقات تحالف وتوافق مصالح وتنسيق سري جرى منذ أيام سقوط الشاه، مرورا بفضيحة “إيران كونترا”، وصولا إلى التحالف لإسقاط نظام طالبان، وبعده نظام صدام.
رابعا: أمريكا خبرت جيدا القنبلة النووية الباكستانية، وبدلا من أن تكون عاملا للقوة الباكستانية تستطيع أن تلعب به في الساحة الدولية لتعزيز مكانتها، أصبحت بعد 11 شتنبر عبئا ثقيلا على باكستان نتيجة التهديد الأمريكي المبطن بتدميرها أو المشاركة بقصفها إذا لم تتعاون ضد طالبان والقاعدة؛ وهكذا يمكن أن يكون السلاح النووي ورقة سياسية في يد الإدارة الأمريكية، تبتز بها إيران وتجبرها على ترك أوراقها في أماكن أخرى.
خامسا: أمريكا تعلم جيدا الأوراق التي تمتلكها حكومة الملالي، فهناك النفط وخطوط نقله كما سبق وبيّنا، وهناك ورقة الانتحاريين الذين يمكن إرسالهم إلى دول مختلفة وإحداث القلاقل في هذه الدول، وهناك أيضا أفغانستان وطائفة الهزارة الشيعية والصلة بين المخابرات الإيرانية وبعض زعماء الطاجيك، وهناك أيضا شيعة الخليج والتأثير الإيراني عليهم، وهناك لبنان وما يسمى حزب الله، بالإضافة إلى الورقة السورية، فضلا عن الورقة الفلسطينية المتمثلة في دعم حماس بعد فوزها في الانتخابات، وأخطر هذه الأوراق على الإطلاق هي الورقة العراقية وشيعة الجنوب.
وفي المعلومات الاستخباراتية أنّ إيران استأجرت واشترت 2700 وحدة سكنية من البيوت والشقق والغرف في مختلف أنحاء العراق، وخاصة في النجف، وكربلاء ليسكن فيها رجال الاستخبارات الإيرانية وعناصر من فيلق القدس الاستخباراتي، ويشير حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر وحده عدا التيارات الأخرى خلال الأشهر الأخيرة، إلى تجاوز سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب فرق الموت، وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث.
كل هذه الأوراق تدفع واشنطن باتجاه واحد وهو التفاوض مع إيران لتبادل الأوراق السياسية معها.
وإذا كانت أمريكا تعلم جيدا بالبرنامج النووي الإيراني، بل شاركت في إنشائه، فما سر هذه المشاحنات الإعلامية والتهديدات العسكرية والملاسنات السياسية، والتي وصلت إلى مجلس الأمن؟
الإجابة هي أنه لابد وأن هناك خلافا بين الطرفين، ومساومات على الأوراق السياسية المطروحة بينهما، ففي مقابل الأوراق الإيرانية السابقة الذكر، تملك أمريكا ورقة فعّالة وهي ورقة البرنامج النووي الإيراني، ويشير أكثر المراقبين إلى أن صفقة يمكن أن تتم بين الطرفين، وأن الخلاف هو حول الأولويات.
فحسب بعض التقارير الإخبارية فإن الإيرانيين يريدون صفقة أشمل من النووي، يدخل فيها مصالح اقتصادية وسياسية في شرق إيران وغربها وجنوبها وشمالها، والأمريكيون يفضلون الاتفاق على المسائل واحدة بعد أخرى، من العراق إلى لبنان مرورا بالملف السوري.
والولايات المتحدة الآن في مواقع الدفاع في الشرق الأوسط تحتاج إلى الاستقرار في العراق والخليج عموما، حتى لا تفقد مصالحها المرتبطة بتجارة النفط.
وهكذا تحولت الفوضى الخلاقة، التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس في الإدارة السابقة، لغير صالح الولايات المتحدة الأمريكية، أو هكذا يبدو على الأقل، وصار الاضطراب البناء ذاته عملة إيرانية صعبة تستطيع الكسب عن طريقها بتحريك أحجار الشطرنج دونما حاجة لإحراق أصابعها، ويبقى الخاسر الأكبر هو نحن المسلمون السُّنة، لأننا ما توحدنا تحت راية العقيدة ومصلحة الأمة أولا وأخيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *