هل يعد اعتماد فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية اجترارا للماضي واستفتاء للأموات في شأن الأحياء؟!

قال الإمام مالك رحمه الله: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”. وليس المقصود بحال الرجوع إلى وسائل عصرهم في الحياة العمرانية في أساليبها في الإنتاج والنقل، والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والمستشفيات والمصانع.
بل إن من أعظم خصائص منهجهم ربط الحياة الواقعية بالشريعة عن طريق الاجتهاد في تحقيق مناط الأحكام المبنية على النصوص الشرعية. وهذا مما يجعل هذا المنهج ممتدا عبر الزمان، مبرزا بحق صلاحية الشرعية وإصلاحها لكل زمان ومكان، وثبوتها وشموليتها.

من الشبه التي يروجها بعض من يناصب المنهج السلفي العداء ادعاؤهم أن: (التزام فهم السلف اجترار للماضي؛ واستفتاء للأموات في شأن الأحياء.. ونحوها من الألفاظ التي يفهم منها التنقص).
والجواب على ذلك من وجوه:
أولا: أكثر من حمل لواء هذه الشبهة وساقها مساق الانتقاص والازدراء هم غلاة العصرانية؛ الذين يرفضون الاعتماد على التعاليم الإسلامية كليا أو جزئيا في تنظيم شؤون الحياة؛ من العلمانيين ومن يسمى بـ”اليسار الإسلامي” ومن على شاكلتهم، ومنهم عبد الله العروي والجابري ومحمد أمين العالم وجابر عصفور ومعن زيادة وحسين أحمد أمين.. وأمثالهم.
وهناك من الإسلاميين أيضا من قد تأثر ولو جزئيا بهذه الشبهة.
ثانيا: هؤلاء جعلوا السلفية والماضوية تهمة وعيبا وعارا، تقليدا منهم للمفكرين الغربيين الذين جعلوا الكنيسة ورجالات الدين وكل ما يمت إلى الدين بصلة -خاصة في العصور الوسطى عندهم- من أكبر عوائق النهضة الأوربية الحديثة، فناصبوها العداء والنفرة والتحرر، ولهم في ذلك ما يبرره، فجاء هؤلاء المقلدة من المفكرين العرب الذين يقيسون تاريخ أمتهم وواقعه بما جرى في التاريخ الأوربي، ويسقطون بالتالي الأحكام التي تصدق على التحولات الفكرية للغرب على أمتهم الإسلامية، دينا وتاريخا وواقعا (السلفية وقضايا العصر؛ للزنيدي ص:101)، مع البون الشاسع والفارق الكبير بين الحالين؛ بين الخرافة والحقيقة؛ بين اجتهادات البشر وتخرصاتهم وبين الوحي الرباني المعصوم.
ثالثا: أن هذه المنقصة في نظر هؤلاء عند النظر فيها بموضوعية وإنصاف ومنهجية سلمية تعد منقبة لأصحاب المنهج السلفي، فتلك (شكاة ظاهر عنك عارها)، وصحته تتجلى على مستويين:
1- على المستوى النظري فهذا المنهج يقوم على الاعتصام بنصوص الوحي وفق منهج من تلقاها قبل غيرهم، وهم سلف الأمة وأعلمها وأعدلها، ولاشك أن هذا ماض بالنسبة لنا مجيد، وفي نفس الأمر فهذه النصوص وفق هذا المنهج لا يحدها زمن، فالأخذ بها واجب على مرِّ الزمان وفق هذا المنهج حسبما يقرره العلماء المعتبَرون.
2- أما على المستوى التطبيقي: فإن خير من مثل هذا المنهج وقام بتطبيقه واقعا ملموسا في هذه الحياة هم: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التابعون ثم تابعوهم على وجه الإجمال.
والمقصود من ذلك هو منهجهم في فهم النصوص وتنزيلها على الواقع، وهذا ما عناه الإمام مالك رحمه الله بمقولته: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”. وليس المقصود بحال الرجوع إلى وسائل عصرهم في الحياة العمرانية في أساليبها في الإنتاج والنقل، والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والمستشفيات والمصانع.
بل إن من أعظم خصائص منهجهم ربط الحياة الواقعية بالشريعة عن طريق الاجتهاد في تحقيق مناط الأحكام المبنية على النصوص الشرعية. وهذا مما يجعل هذا المنهج ممتدا عبر الزمان، مبرزا بحق صلاحية الشرعية وإصلاحها لكل زمان ومكان، وثبوتها وشموليتها.
ومن هنا ندرك أنه لا تعارض بين الرجوع للماضي وبين التقدم، بل نستطيع القول بأن التقدم الحقيقي بمعناه المتكامل لن يتم لأمة الإسلام ما لم تتمسك بشريعة الإسلام كما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الإسلام شاهد على أن العلاقة بين التقدم والتمسك بالشريعة علاقة مطردة.
وعليه فما كان عليه منهج السلف رضوان الله تعالى عليهم ليس منهجا فحسب ولا مذهبا فقط؛ بل هو منهج قام عليه المذهب؛ منهج في فهم النصوص الشرعية والتعامل معها؛ وتنزيلها على الوقائع والمستجدات بضبط الاجتهاد.
ومذهب في الأمور الغيبية التي لا مجال فيها للاجتهاد وإعمال الرأي كمسائل العقيدة والصفات وسائر الأمور الغيبية. فلهم مذهبهم الثابت ونصوصهم وتقريراتهم لمثل هذه المسائل الثابتة التي لا تتغير ولا تتأثر بظروف الزمان والمكان.
ثم إنه لا يجوز أن نعتمد في هذه المسألة المقاييس المادية الصرفة؛ كما هو شأن المفهوم الغربي للتقدم والتأخر؛ لأن المقاييس الإسلامية تنظر للدنيا والآخرة، وتقوم على نظرة شاملة لما يَصلُح الإنسان وما يُصلِحه في نفس الأمر. (موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي من النص الشرعي ص:383).
فمرجع السلفية ليس الماضي بإطلاق؛ ولكنه شيء محدد مما قام في الماضي متمثلا في الكتاب والسنة، وفق الفهم الصحيح لهما والمتمثل في فهم الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان.
وعليه فإن السلفية اليوم تنظر إلى الماضي فتأخذ وتستمسك بالجانب الإيجابي منه، ومن أولوياته فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم للنصوص الشرعية وتطبيقاتهم الفكرية والعملية لها، وتطرح كل ما ارتبط بالماضي من سلبيات لا تمت إلى الدين بصلة، وتسعى جاهدة لتنقية عقول وأفكار المسلمين من موروثات الماضي البائدة والدخيلة عليها. (شبهات العصرانيين “الإسلاميين” حول اعتماد فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية؛ دراسة نقدية؛ د.عبد الله الدميجي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *