المصطافـات البديلــة مصطفى الحسناوي

ما بين مصطافات العري والاختلاط، (المخيمات الجماعية العلمانية) التي ترعاها السلطات وتشرف عليها، ومصطافات الإسلاميين التي حاربتها الدولة وضيقت عليها، واعتبرتها معسكرات تهدد الأمن، ألا يمكن إيجاد صيغة ثالثة بديلة، تكون حلا ووجهة لأغلبية المواطنين الذين يبحثون عن مخيمات ومصطافات عائلية محتشمة وهادئة، توفر للمواطن السكينة والراحة النفسية والروحية، وتقوم عليها السلطات وتوفر لها الحماية والمراقبة؟

لم يعرف المغاربة على الأقل قبل الاستقلال، هذا الشكل من الأنشطة، التي يتجمع فيها النساء والرجال ويتعرون إلا من ملابسهم الداخلية، في مكان عام ينظر بعضهم إلى بعض. لا دينهم الإسلامي ولا حتى الأديان التي سبقت تسمح بذلك، ولا تقاليدهم الأمازيغية والعربية تسمح بذلك، ولا ثقافتهم وهويتهم تتقبل ذلك. لقد حدث الأمر فجأة وبسرعة كبيرة، كما هو الأمر مع الأنشطة والسلوكات والثقافات الواردة مع المحتل، أو فيما بعد عن طريق الانفتاح على وسائل الإعلام.

ورغم تأثر جزء من المجتمع المغربي، بهذه الثقافة الدخيلة (تعري النساء والرجال واختلاطهم في الشواطئ)، إلا أن جزء آخر بقي على أصله محافظا محتشما ممانعا، وهو الجزء الغالب والأكبر والأكثر، ولا يقتصر على أبناء الحركات الإسلامية وأسرهم وعائلاتهم التي تعد بالآلاف، بل أيضا سكان القرى، وجزء كبير من سكان المدن من العائلات المحافظة، هذه الفئة من المواطنين بقيت دائما كل صيف تبحث عن بديل للتخييم والاصطياف، بل حتى النساء والشابات “المتحررات”، ممن ليس لديهن مشكل مع كشف أجسادهن أمام الغرباء والتعري في الشواطئ المختلطة، تشتكي بعضهن من التحرش والمضايقات، خاصة أن بعض تلك الشواطئ تكون غاصة مزدحمة، أشبه ما تكون بالأسواق الأسبوعية.

إن المعلومات والمعطيات حول نشأة المخيمات بالمغرب شحيحة، وهذا الكلام هو لأحد الباحثين والمهتمين بل والمسؤولين على قطاع التخييم في المغرب، الأستاذ محمد القرطيطي رئيس الجامعة الوطنية للتخييم، وفي كتابه “مسارات التخييم بالمغرب” الصادر سنة 2014، خلص إلى أن المغرب لم يعرف: “قبل الأربعينيات تنظيم نشاط يوازي المخيمات، أو يتقارب مع المفهوم السائد الآن”، وهو يتحدث عن تنظيم المخيمات بالنسبة للتلاميذ.

قبل التاريخ الذي ذكره القرطيطي، كانت هناك محاولات بدأت منذ 1918، تاريخ إقامة أول مخيم للأطفال، من تنظيم اتحاد نساء فرنسا تحت إشراف زوجة المقيم العام مارشال اليوطي.

بالنسبة لتلك الحقبة فقد كانت دوافع هذه المخيمات متعددة ومتنوعة، بين دوافع دينية كانت وراءها الكنائس التي كانت تشتغل تحت ظل الاحتلال، من أجل احتضان الأطفال والشباب الفقراء وتنصيرهم، وأيضا دوافع سياسية استعمارية، وكان يستهدف الذكور والإناث، والبلديات هي التي تقوم باختيار أطفال العائلات الفقيرة أو المحدودة الدخل، ولنا أن نتخيل أي غاية من وراء استهداف إناث العائلات الفقيرة في تلك الفترة، وهي عائلات محافظة.

في مطلع هذا المقال ذكرت المخيمات العلمانية، وهذا المصطلح أو هذا الوصف لم أخترعه، بل هو جار به العمل وذكره أحد الباحثين، نقلا عن وثائق من الأرشيف الفرنسي، تتحدث عن أول مخيم بمفهومه الحالي في فرنسا، ووصفته بأول مخيم جماعي علماني، من تنظيم إدمون كوتينا سنة 1883. لذلك تعمدت أن أصف المخيمات المختلطة بأنها مخيمات علمانية، بمعنى تبعد معاني ومفاهيم وقيم الدين والأخلاق والحشمة والعفة عن فعل التخييم والاصطياف.

بعد نهاية الحرب العالمية، اهتمت إدارة الحماية بتنظيم قطاع التخييم، والحديث هنا عن التخييم بشكل عام، وليس الاصطياف وحده، وهكذا تم إحداث مخيمات جديدة، أشرفت عليها التنظيمات الكشفية الفرنسية وبعض الجمعيات التطوعية، وأطلقت بعض التشريعات في هذا المجال.

نلاحظ أن عملية التخييم الخاصة بالأطفال والشباب، بقيت متعثرة ومحتشمة، ولم تحظ بالهيكلة والتنظيم إلا بعد منتصف الأربعينات، رغم إشراف السلطات الفرنسية واهتمامها بالموضوع، ورغم الدوافع المتعددة، وهذا يعني أن ارتياد الشواطئ من طرف عامة الشعب لم يكن معروفا أو جاريا به العمل قبل هذه الفترة، نحن إذن أمام ظاهرة حديثة جدا في البيئة المغربية لن تتجاوز السبعة عقود على أبعد تقدير، ورغم ذلك عرفت أشكالا من المقاومة، تارة بهجرها والعزوف عنها، وتارة بابتكار طرق بديلة، من مخيمات غير مختلطة ومصطافات خاصة بالعائلات، وكذا المخيمات الصيفية للحركة الإسلامية…

كانت المخيمات الصيفية أول نشاط علني لحركة الشبيبة الإسلامية، عقب حصولها على الترخيص الرسمي، وكانت أول مخيماتها في صيف 1972، لكن سرعان ما توقف الأمر بعد الأحداث الأمنية التي عرفتها الشبيبة، وهروب قياداتها خارج البلاد.

منذ منتصف الثمانينات وإلى بداية التسعينات أعادت الحركة الإسلامية بمختلف توجهاتها، نشاط المصطافات والمخيمات غير المختلطة، فكانت هناك أماكن تخييم لحركة التوحيد والإصلاح ولجماعة العدل والإحسان وللسلفيين.

مصطافات الحركات الإسلامية، ستعرف أوجها نهاية التسعينات، وبالضبط سنوات 1998 و1999 حيث ضم مخيم أبو النعائم على سبيل المثال حوالي 30 ألف مصطاف، وكانت التجربة فريدة من نوعها في العالمين العربي والإسلامي، وقد عشت هذه التجربة وأنا ابن 18 سنة، وأذكر أن المخيم كان بطول ثلاث كيلومترات، وضم مصطافين من جماعتي التوحيد والاصلاح والعدل والإحسان، وعوائل مغربية محافظة، وعائلات أجنبية…

ما لبثت التجربة أن انتقلت من شاطئ أبو النعائم إلى مجموعة شواطئ مغربية أخرى شمالا وجنوبا، إلى أن قررت السلطات منع هذه المخيمات صيف 2000.

منع السلطات لهذه المخيمات، جعل جماعة “العدل والإحسان” تتخذ قرار النزول إلى الشواطئ المختلطة فأعقب ذلك اصطدامات ومواجهات وحملة اعتقالات، وتطور الأمر إلى منع الصلاة في الشواطئ، فيما عرف حينها بحرب الشواطئ، وهكذا أسدل الستار على هذا النوع من المصطافات والمخيمات، بعد قرار الجماعة الاستسلام للأمر الواقع سنة 2001.

لتأتي أحداث 16 ماي 2003، وتضع حدا لأي تجمع غير مرخص، وتحاصر أماكن التخييم والاصطياف غير الخاضعة للمراقبة، أو بتعبير آخر منع كل المصطافات غير العلمانية، وإقفال الباب أمام أي مصطافات بديلة.

إن غياب هذه المصطافات البديلة، دفع الكثير من العوائل والشباب المحافظ، إلى الهرب إلى شواطئ نائية مهجورة وغير مأهولة، للابتعاد عن العري والاختلاط الفاضح، ما نتج عنه حالات غرق كثيرة، بسبب انعدام الحماية والمراقبة، إضافة للعناء الذي تتكبده العوائل والأسر المحافظة، في بحثها عن شواطئ غير مختلطة، ما يطرح تساؤلات عديدة على المسؤولين:

أليس من حق فئة كبيرة من المواطنين أن تصطاف وتخيم وتستجم وتتمتع ببحار بلادها بعيدا عن العري؟

إلى متى سيستمر هذا النزيف من فقد الأرواح بسبب ذهاب البعض إلى مصطافات غير محروسة، بحثا عن البديل؟

ألا تغامر الدولة بمصداقية شعاراتها وهي تمنع العائلات المحافظة من تخييم يتوافق مع هوية وثقافة وتاريخ ودين البلد؟

ماذا قدم الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، في هذا الباب، وهو الذي عانى كثيرا ويعرف حاجة الأوساط المحافظة لمنتوج كهذا؟

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *