شبهة في باب الابتداع والجواب عنها “ترك الشيء لا يدل على تحريمه” رشيد مومن الإدريسي

عند الإنكار على كثير من الناس بعض ما أحدثوا من البدع في باب التعبد، باعتبار أن ذلك لم ينقل فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده، مع أن مقتضى الفعل قائم والدواعي متوفرة للنقل ولا مانع يمنع ذلك، يحتجون على صنيعهم بأن “الترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك” كما قاله عبد الله بن الصديق في كتابه “حسن التفهم والدرك لمسألة الترك”، بل جعلوا هذا المعنى من الأمور المقررة عند علماء الأصول.

فنقول نعم، هذا الكلام جرى على لسان العلماء، وهو مسطور في كتب الفقهاء، وممن ذكر ذلك الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” 1/205حيث قال : “ترك الشيء لا يدل على تحريمه”.
فالقاعدة صحيحة، لكن وضعت في غير موضعها حتى أحدث بسبب الاعتماد عليها جملة من المحدثات والبدع، ذلك أن مجال استعمالها -عند عموم العلماء- العادات لا العبادات، لأن الأصل في العادات الإباحة، فالترك في باب العادات لا يدل على التحريم، كترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب، ولذا قال الشاطبي رحمه الله عنه: “فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة، ولا حرج فيه” الموافقات 4/60.
أما العبادات فعلى خلاف ذلك، لأن الأصل فيها المنع والتوقف كما هو مقرر معلوم، وفي ذلك قال ابن عاشر رحمه الله في المرشد المعين:
ويوقف الأمور حتى يعلما *** ما الله فيهن به قد حكما
يقول الشيخ صالح الفوزان: “فالأصل في العادات الإباحة، فالترك في باب العادات لا يدل على التحريم. فمثلا النبي عليه الصلاة والسلام لم يأكل الضب، هل هذا يدل على تحريمه؟..لا، لأن الترك لا يدل على التحريم، هذا في باب العادات..
وأما العبادات فالأصل فيها التحريم إلا إذا ورد الإذن..” انظر كتابه شبهات وردود.
ومن أمثلة الترك في العبادات: الأذان في العيدين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..فلما أمر -أي النبي عليه الصلاة والسلام- بالأذان للجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، دل تركه على أن ترك الأذان هو السنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة فيه كالزيادة في أعداد الصلوات وأعداد الركعات، أو زيادة أيام الصوم المفروضة، أو شعائر الحج المطلوب ونحو ذلك” الإقتضاء 134.
فتبين أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم في باب التعبد مع وجود المقتضى للفعل(1) والدواعي متوفرة للنقل ولا مانع يمنع ذلك، كان فعله بدعة وتركه سنة، وهذا الذي يعرف بالسنة التركية، فالاتباع للسنة في التعبدات يكون بترك ما ورد تركه وفعل ما ورد فعله كما قال الشافعي رحمه الله: “ولكننا نتبع السنة فعلا أو تركا” الفتح 3/475.
قال الشيخ علي محفوظ رحمه الله: “اعلم أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي عليه الصلاة والسلام في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سنة.
وكما لا تتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل، لا تتقرب إليه بفعل ما ترك، فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل” الإبداع في مضار الإبتداع 43.
ومما يؤكد هذا أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي أمرنا باتباعها: قول وفعل وتقرير، وقد قرر جمهور(2) علماء الأصول رحمهم الله أن الترك يدخل في الفعل كما قال صاحب المراقي رحمه الله:
فكلنا بالنهي مطلوب النبي *** والترك فعل في صحيح المذهب
والدليل على ذلك الكتاب والسنة والآثار.
فمن القرآن قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا..، وصراحة دلالة هذه الآية..على ما ذكر واضحة كما ترى” أضواء البيان 6/256.
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” رواه البخاري.
قال الشنقيطي رحمه الله في المذكرة 39: “فسمي ترك الأذى إسلاما، وهو يدل على أن الترك فعل”.
ومن الآثار قول أبي هريرة رضي الله عنه لمروان: “أحللت بيع الربا يا مروان” وهو عند مسلم.
قال الزرقاني رحمه الله: “وفيه أن الترك فعل، لأنه لم يحل الربا، وإنما ترك النهي..” شرح الموطأ له 3/369.
وعليه كان التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام في باب العبادات يشمل الفعل والترك على السواء.
قال الشوكاني رحمه الله: “تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله في التأسي به فيه” إرشاد الفحول 83.
فتبين بذلك أن القاعدة المذكورة أعلاه تساق في عرف عموم الفقهاء في مجال العادات لا العبادات، فتذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- يقول الصنعاني رحمه الله: “ما وجد سببه في عصره صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ففعله بعد عصره بدعة” سبل السلام 1/227.
2- وهو الصواب، انظر: “دليل الترك بين المحدثين والأصوليين” لأحمد كافي 139 و144 فما بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *