ما هي الطريقة الصحيحة للوصول إلى المقاصد أو معرفتها؟
هذه بعض القوانين لبلوغ ذلك:
1- الاحتكام إلى لغة النص وقوانين خطابه، وأصول المواضعة التي تعاهد عليها الذين نزل هذا النص بلغتهم وهم العرب وقد رأينا التأكيد على هذا الضابط لدى كل من الشافعي والشاطبي 1.
2- 2أن يوافقك القرآن كله على تفسير بعضه فإن القرآن كله كالآية الواحدة فلا يحكم ببعضه دون بعض .
3 – 3الأمر بالفعل يستلزم قصد الشارع إلى وقوع ذلك الفعل، والنهي يستلزم القصد إلى منع وقوع المنهي عنه .
4 – الدلالة الصريحة الواضحة التي لا تحتمل وجهاً آخر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وقوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ4.
5 – السنة المتواترة ويظهر ذلك جلياً في حالتين:
– التواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة لعمل النبي فحصل لهم بذلك علم بتشريع ذلك وإليه يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة.
– تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرار مشاهدة أعمال رسول الله ( 5).
6 – علل الأحكام تدل على قصد الشارع فيها فحيثما وجدت اتُّبعت ( 6 ).
7 – كل أصلٍ ملائم لتصرفات الشارع، وكان معناه مأخوذاً من مجموعة أدلة حتى بلغ درجة القطع يبنى عليه ويُرجع إليه ولو لم يشهد له نص معين ( 7 ).
8 – إذا سكت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام فيه دل سكوته على قصده إلى الوقوف عند حد ما شرع ( 8).
9 – الاستقراء من خلال مجموع أدلة الشريعة كتاباً وسنة، وهو يفيد القطع لأن كليات الشريعة لا تستند إلى دليل واحد بل إلى مجموعة أدلة تواردت على معنى واحد فأعطته صفة القطع، وتخلُّفُ بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً ( 9 ). وقد اعتبر ابن عاشور الاستقراء المسلك الأول من مسالك إثبات 10المقاصد .
وهذا طريق مهم لمعرفة المقصد ولضبطه أيضاً، فإن الكتاب يجب أن يشهد لبعضه، ويجب أن يوافقك القرآن كله على بعضه، وبعضه على كله.
وفي ذلك أبلغ رد على الخطاب العلماني الذي يريد منا أن نتخلى عن جزئيات الشريعة وتفاصيلها ودقائقها حفاظاً على روحها أو مغزاها أو مقاصدها أو جوهرها كما يقولون فإن الأجزاء مرتبطة بالكل والكل يشهد للأجزاء؛ وهو ما يوضحه الشاطبي أجلى توضيح بقوله:
“كما أنه إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات. كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي، وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع.. فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصد إلى الجميع وهو المطلوب” . “لا بد 12من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس؛ وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد” .
وبذلك يظهر أن المقاصد عند الشاطبي لضبط الاستدلال وليس لتمييعه، وأن اعتبار الكليات لا يجب أن يفضي إلى إهدار الجزئيات كما يرغب بذلك الخطاب العلماني، ولكأني بالشاطبي يخاطب العلمانيين عموماً والجابري تحديداً لأنه كان يريد توظيفه توظيفاً مغرضاً حين اعتبره مؤسساً لنظام العقل بدلاً من نظام الخطاب، وذلك حين يقول: “إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم، بحيث لا يتهمون العقـل وقـد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر…وليس كـل ما يقضي به العقـل يكون حقاً”13 .
ومن هنا فإن الخطاب العلماني حين يتجاهل هذه القوانين والضوابط التي وضعها أهل المقاصد فإنه ليس من حقه أن يتكلم باسم المقاصد، لأن هذا لون من الهزلية أو المراوغة، إذ إن الذي ينضوي تحت شعار ليس من اختراعه عليه أن يلتزم بقوانين ذلك الشعار حتى يُعد من أهله، كما أن من انضم في معمعة من المعامع إلى أهل راية عليه أن يعرف إشاراتهم ومواضعاتهم وقوانينهم ونظامهم حتى لا يهلكوه.
—————————
(1) راجع ص:307
(2) الزركشي؛ البرهان 2/17
(3) الموافقات 2/667، 3/111-112-114 وانظر : د.الريسوني نظرية المقاصد ص:277
(4) ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة الإسلامية ص:21 ود.الريسوني؛ نظرية المقاصد ص:130
(5) انظر : ابن عاشور ” السابق ” ص 21 أيضاً .
(6) الموافقات 2 / 668 .
(7) الموافقات 1/37
(8) الموافقات 2/681-683 والاعتصام 1/361
(9) الموافقات 1/29-30 و 2/332-362-364 و د.الريسوني نظرية المقاصد ص:245
(10) ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة الإسلامية ص:20
(11) الموافقات 2/371-373
(12) الشاطبي الموافقات 3/12
(13) الشاطبي : ” الاعتصام ” ص 1 / 184 – 185 .