سذاجة وترهات المبطلين في ميزان حضارة البخاري ومسلم عبد الرحمان سعيدي

البخاري إمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث وطبيب الحديث في علله، وهو أول من ميز بين الحديث الصحيح والسقيم، وكتابه أصح الكتب المؤلفة في الحديث والمتلقى بالقبول، فهو أجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى.

إنه من أتم الغباوة والجهل أن يطعن المبطلون في العقيدة الإسلامية، في بلاد المسلمين، بطعون واهية كمثل تلك التي تصور هذه العقيدة بأنها جمدت عقول المسلمين، نتيجة اعتمادهم على صحيح البخاري رحمه الله الذي هو أهم كتاب يفصل أصول وفروع هذه العقيدة، وأن اعتمادهم ذلك هو السبب في تخلفهم وانحطاطهم.
وفي ردنا على هذا الزعم الباطل نسوق شهادة المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكه» التي تبين فيها الدور الفكري والحضاري الذي قام به المسلمون عبر التاريخ، في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»:
تقول في الفصل الرابع من كتابها المذكور تحت عنوان: «طلب العلم عبادة: {لقد أوصى محمد (صلى الله عليه وسلم) كل مؤمن رجلا أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبا دينيا، فهو الذي يقول: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» ، ويرشد أتباعه دائما إلى هذا فيخبرهم بأن ثواب التعلم كثواب الصيام وأن ثواب تعليمه كثواب الصلاة.
وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة التعرف على قدرة الخالق، وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإنسان مرددا عليهم: «أطلبوا العلم ولو في الصين».
والرسول (صلى الله عليه وسلم) يلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين، والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر.
وعلى النقيض تماما يتساءل بولس الرسول وقرأ: «ألم يصف الربّ المعرفة الدنيوية بالغباوة؟».. ويظل هذا التفكير العقيم سائدا لا يتغير فيتحدث بمثل هذا في القرن الثالث عشر، القديس توما الإكويني فيقول: «إن المعرفة القليلة لأمور سامية أجل قدرا من معرفة كبيرة موضوعها أمور حقيرة»…
ومن هنا يتضح لنا تماما لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفا من السنين قبل أن تبدأ بالازدهار تدريجيا… كانت الاحتكاكات بين الآراء المختلفة قد منحت الحركة الفكرية حيوية دائمة وحمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه علميا وأن يتطور بالقوى العقلية وينهض بها من سباتها…
ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: «تعلم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت». وبأقدام ثابتة.. أقبل العرب على ما وجدوه من معارف فاغترفوا منها قدر جهدهم…
وهم في احتكاكهم بحضارات الهند وفارس والصين يصادفون بين الحين والآخر قطعا متناثرة من حضارات الإغريق أو الإسكندرية. ولكن كل ما كانوا يجدونه… كان لا يشفي غليلهم. لقد ذاقوا حلاوة العلم فازداد شوقهم إلى البحث عنه، ولم يعودوا يرضون بغير العلم والبحث بديلا…» انتهى كلامها بتصرف.
ومما لا يماري فيه إلا جاحد أن مصدر المعرفة عند المسلمين ومحرك هذه الثورة الفكرية إنما هو القرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن مليء بالآيات التي تحث على التفكر في الأنفس والآفاق، كما أن الله تعالى قد ذم أولئك الذين يعطلون حواسهم ولا يستخدمونها في التفكر والتدبر، قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف:179).
وقد كان النبي عليه السلام هادي الأمة ومعلمها، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه حث على طلب العلم في أحاديث كثيرة.
فلهذه الأسباب شمر الصحابة رضي الله عنهم عن ساعد وساق في سبيل طلب العلم، واقتفى التابعون أثرهم في ذلك، وجرت السنة بعدهم على تحصيل العلم وتعليمه، ومن أوائل العلوم التي اعتنت بها الأمة علوم القرآن والسنة، مما أدى إلى تدوين السنة، فظهرت أوائل المصنفات في النصف الأول من القرن الثاني، لكنها جمعت بين الحديث وأقوال الصحابة والتابعين، فارتأى بعض العلماء تجريد الحديث بالتأليف فظهرت المسانيد في النصف الثاني من القرن الثاني، لكنها مزجت بين الحديث الصحيح والضعيف، مما دفع الإمام البخاري رحمه الله في بداية القرن الثالث، إلى إفراد الحديث الصحيح بالتأليف.
ويعتبر القرن الثاني الهجري عصر ازدهار العلوم الإسلامية عامة وعلوم السُّنَّة النبوية خاصة، حيث نشطت الرحلة في طلب العلم وتوسعت العلوم وازدهرت في التاريخ والجغرافيا والأدب والفلسفة والطب وغيرها، ونشطت الترجمة، إلى جانب العلوم الشرعية.
ومما يجب التنبيه عليه أن العلماء في تلك العصور كانوا يجمعون بين التخصص وبين شمولية الموسوعية، وكانت العلوم الشرعية هي الركيزة الجامعة التي تلتف حولها بقية العلوم، كما أن تلك العلوم تأثرت بمنهج أهل الحديث، لأنهم أول من وضع مناهج البحث والتدوين والتثبت من الأسانيد، إضافة إلى كون السنة هي المصدر الثاني للمعرفة بعد القرآن الكريم.
فكان العلماء على اختلاف تخصصاتهم يفتقرون إلى أهل الحديث لمعرفة الحديث الصحيح من غيره، فهم سندهم ومصابيحهم التي يهتدون بها في دروب تلك المعارف.
ومن هنا تتجلى لنا مكانة الإمام البخاري رحمه الله تعالى وفضله، فهو إمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث وطبيب الحديث في علله، وهو أول من ميز بين الحديث الصحيح والسقيم، وكتابه أصح الكتب المؤلفة في الحديث والمتلقى بالقبول، فهو أجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى.
فكان رحمه الله بهذا الفضل شيخ الإسلام، لأنه المرجع في الحديث الذي يلجأ إليه العلماء على اختلاف طوائفهم وتشعب معارفهم، وقد تميز رحمه الله بجمعه بين الحفظ والإتقان في علم الرواية وبين والاجتهاد وسمو الفكر وبعد النظر، كما يظهر ذلك في كتابه الجامع الصحيح.
فهو رحمه الله سراج الأمة وسندها، قيضه الله تعالى للذب عن السنة، فاستحق كل تقدير واحترام وتبجيل.

خاتمة:

وبعد هذه الحقائق أفلا نرد على هؤلاء المبطلين بالتساؤل التالي:
من ذا الذي يستحق يا ترى أن يوصف بالجمود الفكري؟
بل من الذي يتصف فوق ذلك بالتعصب المقيت وبالتقليد الأعمى؟
من الذي تصدق عليه صفات الجهل والغباوة والرعونة والسخافة والدناءة والسفه؟
ألم ينغمس هؤلاء المبطلون في الخرافات والترهات التي لا يمكن أن نتصور مدى سيطرتها على عقولهم الساذجة!؟
ومن ناحية أخرى، أو ليس الإسلام هو الذي حرر الفكر من الجمود وانطلق به في رحاب المعرفة الواسعة؟
أو ليس المسلمون هم من عـَلَّم الغرب وبذر حب الحضارة في أوروبا، بل وفي العالم بأسره؟
أو ليس البخاري هو أجل من صان أهم مصادر الفكر الإنساني؟
أو لم ينقل إلينا بكل أمانة وإخلاص نصائح رسول الإنسانية عليه السلام بضرورة تعلم العلم وحفظه وتعليمه، وقواعد الحضارة في العلوم والقيم الإنسانية؟
أو لا يستحق البخاري أن يكون معلم الإنسانية وحافظها بعد أن كان شيخ الإسلام بلا منازع؟
أفلا يتنبه العلماء وولاة الأمور إلى خطر هذه الفتنة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، وتسعى إلى هدم الحضارة التي حافظ عليها المغاربة منذ قرون؟
أفلا يتنبه أولئك المبطلون إلى الأسباب الحقيقية لانحطاط المسلمين، والتي هي الإعراض عن الكتاب والسنة، بدل أن يحاولوا حجب أشعة الشمس بالغربال؟
والله ولي التوفيق وهو المستعان على كل حال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *