أحدث البلاغ الذي صدر عن الديوان الملكي بمدينة العيون بتاريخ 26 ربيع الثاني 1437 موافق لـ 6 فبراير 2016، والذي تضمن الإشارة إلى ضرورة مراجعة مناهج ومقررات تدريس التربية “الدينية”، جدلا واسعا بين العلمانيين والعلماء وأساتذة مادة التربية الإسلامية، حيث تم استغلال الأوامر الملكية بشكل لا يخلو من انتهازية، الأمر الذي أثار تخوفات المغاربة على أهم مادة تحافظ على هويتهم وعقيدتهم ودينهم.
لم ينتظر المغاربة طويلا حتى خرجت وزارتا التربية الوطنية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بأول قرار مخيب للآمال، شمل تغيير اسم مادة ومقررات “التربية الإسلامية” وتعويضه باسم “التربية الدينية”، الأمر الذي أثار مرة أخرى نقاشا واسعا وجلبة قوية، خصوصا وأن الموضوع كان ولا يزال محل جدل محتدم بين العلمانيين والمسلمين، منذ أحداث الدار البيضاء المشؤومة سنة 2003.
فهل لتغيير الاسم ارتباط بتغيير المحتوى والمضمون؟
وهل جاء هذا التغيير عفويا؟
أم هو حلقة ضمن مسلسل تجديد الخطاب الديني؟
بالرجوع إلى الوثيقة الموجهة إلى لجان تأليف وإعداد مقررات مادة التربية “الدينية”، المعنونة بـ”البرامج والتوجيهات التربوية الخاصة بتدريس مادة التربية الدينية بالتعليم الثانوي” نجد في مقدمتها ما يلي:
“في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية والتنموية التي يشهدها المغرب في عهد أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله؛ وفي ظل الإصلاحات البناءة في مجال تدبير الشأن الديني المتمثلة أساسا: في ترشيد الخطاب الديني، وفي تفعيل أدوار المساجد ووظائفها وصيانتها، وتجديد دور الدين وعلمائه في حياة الأمة…
ومن أجل تحقيق هذا المقصد عملت وزارتا التربية الوطنية والتكوين المهني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على ترجمة التوجيهات الملكية السامية، وذلك من خلال مشروع مراجعة وتحيين الهندسة المنهاجية للتربية الدينية بما تتضمنه من مكونات على مستوى الأهداف والتوجيهات والبرامج والمضامين التعليمية وصيغ التدبير التنظيمية والتربوية”.
إذًا، يمكننا أن نستنتج أن الانتقال من “الإسلامية” إلى “الدينية” لم يكن عفويا بل لم يكن بريئا، وإنما هو تغيير جاء استجابة للمطالب العلمانية، وتقليدا للدول التي تتحكم في مفاصلها العلمانية.
تلك الدول اضطرت لتغيير مادة التربية الإسلامية واستبدالها بالدينية نظرا للتعدد الطائفي حيث يوجد من رعاياها نصارى يشكلون نسبة مهمة من سكانها، فهل يا ترى نحتاج إلى التغيير نفسه؛ في بلاد سكانها كلهم مسلمون موحدون مالكيون سنيون ولا توجد إلا أقلية من اليهود لا تشكل شيئا يذكر، ولها كامل الحرية في تدريس ما تشاء لأبنائها ولا يتدخل فيها أحد كائنا من كان؟
كما تثبت الوثيقة أن ذلك التغيير جاء في سياق سلسلة من التدابير والقرارات، شملت موضوع تجديد الخطاب الديني في المغرب، وحتى نفهم ما يجري علينا أن ندردش قليلا حول هذا السياق الذي اقتضى التبديل من “إسلامية” إلى “دينية”.
فأول ما نلاحظه، هو أن التغيير جاء منسجما مع الرؤية التي فرضها وزير الشؤون الإسلامية أحمد توفيق، منذ توليه لمنصبه، حيث يعمل على تطويع الإسلام والتدين في المغرب لقيم الانفتاح اللامحدود على المناهج الغربية، والتماهي التام مع مقتضيات الإذعان اللامشروط للتوصيات والقوانين الأممية المتعلقة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها في الغرب.
وكما ذكرت الوثيقة المذكورة أعلاه فإن هذه التغييرات أو الإصلاحات المتعلقة بمادة التربية الإسلامية قد جاءت في سياق ترشيد الخطاب الديني في المغرب، هذا الترشيد الذي يظهر طابعه وماهيته من خلال ما اتخذه الوزير توفيق من تدابير من قبيل:
– منعه للدعاء على اليهود والنصارى في خطبة الجمعة.
– منعه للدعاء مع المجاهدين في فلسطين وباقي البلدان التي تعرف احتلالا من طرف البلدان التي كانت تعتبرها وزارة الأوقاف إلى عهد قريب دولا كافرة.
– عزل كل من ينكر منكرا شائعا أو يتحدث عن منكر منظم، مثل: مهرجان موازين وعرض أفلام تحتوى مشاهد العهر والخنا، أو يتناول في خطبته حكم الإسلام في القروض الصغيرة التي يعصى الله بها يوميا وتَستنزف مداخيل الفقراء المغاربة.
– عسكرة القيمين الدينيين وتكميم أفواه العاملين في الشؤون الإسلامية.
– تمييع خطب الجمعة وقطعها عن واقع المغاربة، مع الاقتصار على التركيز على الجانب الطقوسي الفردي في الإسلام، بحيث أصبحت مضامين خطب الجمعة تعيد صياغة التدين بشكل يندثر معه الإحساس بالانتماء إلى الأمة وتركيز الانتماء إلى الوطن، مع اجتثاث المتلقين من هويتهم وإبعادهم عن قضايا أمتهم مثل قضية القدس وفلسطين واحتلال العراق وتقتيل المسلمين في سوريا وميانمار.
لكن؛ السؤال الكارثة هو: هل سيكون لتغيير الاسم علاقة بتغيير المضمون؟
بالرجوع إلى الوثيقة المشتركة بين الوزارتين المذكورتين، يتبين أنها تتضمن في النقطة الثانية من المحور الأول، والمتعلقة بـ”الاختيارات والتوجهات العامة للإصلاح التربوي، ما يلي:
“اختيارات وتوجهات في ميدان القيم
وهي مستقاة من المرتكزات الثابتة المنصوص عليها في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وحددت في:
– قيم العقيدة الإسلامية
– قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية
– قيم المواطنة
– قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية”.
فكيف يمكن أن نجمع في مقرر تربوي واحد بين قيم العقيدة الإسلامية وبين قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية؟
ثم هل يخفى على أحد أن المبادئ الكونية لحقوق الإنسان قد وضعها الإنسان الغربي العلماني بعد أن ثار على الدين بمفهومه العام وجعله مجرد مكون ثقافي، وكفَر بكل ما ليس بشريا، ونظم دوله وفق العقيدة العلمانية التي لا تعترف بدين يشكل تصور المواطن للكون والحياة والإنسان؟
فكيف إذًا، يمكن للقائمين على تنزيل هذه الاختيارات والتوجهات العامة في مضمون مقررات التربية “الدينية”، أن ينتصروا للعقيدة الإسلامية عند التعارض؟
فعلى سبيل المثال: قيم العقيدة الإسلامية تعتبر اليهود والنصارى كفارا، كما هو الشأن عند العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، وتمنع من ترك هؤلاء الذين تعتبرهم كفارا من المجاهرة بكفرهم والدعوة إليه، بله أن تسمح بتخصيص أماكن لممارسة كفرهم، كما تعتبر من يصحح دينهم كافرا ولو صلى وصام، أما البوذية والهندوسية فهي بالنسبة إليها من قبيل الديانات الوثنية الكفرية، وهذا كله يناقض قيم حقوق الإنسان التي تسوي بين الوثني والإلهي، وبين الإسلام الحنيف وعبادة الصليب وعقائد التلمود.
هل سنربي تلاميذنا على البراءة من الكفر وأهله كما كانت الدولة تفعل منذ نشأتها إلى ما قبل الحادي عشر من شتنبر 2001، سنة إعلان أمريكا الحرب على “الإرهاب”؟ علما أن الإسلام في معتقد المغاربة وكل المسلمين هو: “الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله”.
أم أننا سنربيهم على قيم التسامح الغربي المفروض علينا والذي لا يفرق بين الديانات والإثنيات، وإن كان ذلك نظريا فقط، وإلا فهو على أرض الواقع يبيد بجيوشه أو بالوكالة المسلمين حيثما حل وارتحل؟
قد يتهمنا بعض متطرفي العلمانيين بأننا نبالغ، لكن الذي يطلع على مضمون الوثيقة المؤطرة للجان تأليف مقررات ما أسمته الوزارتان “التربية الدينية” يتأكد أنه يستحيل أن يبقى معنى للتربية الإسلامية كما عرفها المغاربة، خصوصا إذا استصحبنا النزعة المتطرفة الغالية في العلمنة الممنهجة لدى وزير الأوقاف.
الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن الهدف من عملية مراجعة مقررات مادة التربية الإسلامية، هو تقزيم الإسلام فيها وتحريفه حتى يستجيب لمقتضيات التزاماتنا الدولية، الحرفية منها والمفهومة، ليصبح إسلاما تعبديا طقوسيا، تماما مثل ما وقع للنصرانية، لا يقدم من القناعات إلا ما يخدم تصور العلمانية العالمية للكون والإنسان والحياة، بعيدا عن عقيدة الولاء والبراء التي لا وجود للإسلام ولا للإيمان بدونها، وبعيدا عن العقيدة الإسلامية سواء السلفية منها أم الأشعرية، التي تعتبر كل من صحح دين اليهود والنصارى كافرا كفرا مخرجا عن الملة، وفتاوى المالكية المغاربة أكبر وأكثر من أن تحصى.
إنها محاولة لطرد ما تبقى من الإسلام في المقررات التعليمية، حتى يوضع آخر مسمار في نعش الشريعة الإسلامية التي أزاحها ليوطي من دفة قيادة السياسة بالحديد والنار، ليأتي أحفاده العلمانيون اليوم فينتشلوا بالمناقيش كل ما تبقى منها في نظامنا التعليمي بدعوى ملاءمة المقررات مع التزاماتنا الدولية.
صحيح أن التوجيهات الملكية صرحت أن مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية “الدينية” هي من أجل إعطاء “أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة”، وفي أولوياتها “المذهب السني المالكي”، الداعية إلى “الوسطية والاعتدال”، وإلى “التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية”.
لكن من يضمن لنا أنه سيتم فعلا اعتماد أصول المذهب المالكي في تحديد مفاهيم ما تم التنصيص عليه من مصطلحات غلبت عليها في التداول السياسي والصحافي والحقوقي دلالات علمانية هي جوهر الصراع بين الإسلام والعلمانية؟
لقد بات واضحا في ظل غياب حرية العلماء وتحنيط دورهم، وتكميم أفواه الخطباء والوعاظ، وهيمنة المقاربة العلمانية لوزير الأوقاف على الشأن الديني، والحياد المقيت للمجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء، وتسلط العلمانيين من خلال المؤسسات الدستورية والرسمية، أن الغلبة ستكون -لا قدر الله- للمد العلماني الزاحف من بلاد الأمريكان، على حساب دين المغاربة ومذهبهم وعقيدتهم وسلوكهم.
فمن سيدافع عن الملة والدين؟؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب
Ettalebibrahim@gmail.com