لماذا اخترنا الملف؟

إن المحرقة الكبرى التي يشهدها قطاع غزة هذه الأيام أشغل بال كل مسلمٍ، وأجهد كلَّ مؤمن فكراً، وجهداً، ومالاً، وروحاً، وصوتاً، ودعاءً، ودموعاً.. كيف لا! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المؤمنين في تراحُمِهم، وتوادِّهم، وتعاطفِهم كمثَلِ الجسدِ إذا اشتكى عضوٌ منه، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهرِ” متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: “المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يشدُّ بعضُه بعضاً، ثمَّ شبَّك بين أصابِعِه”، متفق عليه، وهذا كلُّه تسعدُ به الأمةُ الإسلامية وتُحمدُ عليه.
لكنَّ هذا لا يكفي إذا لم يكن لهذه العواطف رصيدٌ في الواقع، وعملٌ ملموسٌ لحلِّ قضايا أمتنا، إنَّ هذه العواطف الجيَّاشة إذا تركت هكذا لمصيرِ الأحداث، وتغيُّراتِ الزمان تلعبُ بها الرياح كما تشاء، ما بين تصعيد الإعلام لها تارةً، وإخفاق الحكام لها تارةً أخرى، أو تَرْكِها لأهل المصالح الشخصية، أو الرايات المزعومة يقامرون بها كما يشاءون.
إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول كما قال الله جل وعلا: “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”، ولا زال الإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره واستفاض نوره مستهدفاً من قِبَلِ أعدائه الذين لا يتفقون على شيء قدر اتفاقهم على الكيد له، واستئصال شأفة المسلمين، ولا زال التحدي قائماً إلى يومنا هذا، فقبل ستين سنة من اليوم أعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني “ديفد بن جوريون” في هيئة الأمم المتحدة -بعد أن اعترف العالم كله بقيام الُغدَّة السرطانية الخبيثة فوق الثرى الطاهر والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم- ليعلن للعالم كله عقيدة اليهود في فلسطين، إذ الصهاينة لا يتكلمون في المؤتمرات ولا في المفاوضات إلا من خلال عقيدتهم التلمودية التي يعتنقونها ويجلونها، ويحترمونها؛ في الوقت الذي تنكّر فيه أهل الحق للحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض!
قال الرئيس الصهيوني في اللحظات الأولى لميلاد دولة الكيان الصهيوني بالحرف الواحد: “قد لا يكون لنا في فلسطين حق من منطلق سياسي أو قانوني، ولكن لنا في فلسطين الحق من منطلق وأساس ديني، فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله، وأعطانا الله إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى أرض فلسطين، وعلى كل يهودي لا يهاجر اليوم إلى إسرائيل بعد إقامتها أن يعلم أنه مخالف للتوراة، وأنه يكفر كل يوم بالدين اليهودي”، ثم قال: “لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل بدون فلسطين”.
وعقيدتهم هذه لا تتغير بتغير رؤساء الوزراء، وهذا ما أصله رئيس الوزراء السابق “بن يمين نتنياهو” يوم أن نجح في الانتخابات الرئاسية فقال: “لقد صَوَّت اليهود أخيراً للتوراة!!” ثم قال بمنتهى الوضوح: “لا مجال للحديث في أي مفاوضات عن تقسيم القدس، فإن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل”.
وأصدر أهم مرجعية دينية في الكيان الصهيوني الحاخام الأكبر السابق “مردخاي الياهو” فتوى تدعو لإبادة الفلسطينيين بشكل كامل، حتى أولئك الذين لا يشاركون في القتال، ولفت الانتباه إلى أنها ليست فتوى في حقيقة الأمر، بل “فريضة من الرب يتوجب على اليهود تنفيذها”.
هذا المعنى أورده “إسرائيل شاحاك” في دراسته، حيث قال “إن الفرض المقدس فوق كل الفروض، القاضي بإبادة أي شعب غير يهودي يعيش على الأرض المقدسة، يسيطر بدرجة فائقة على التاريخ التوراتي”.
فالحق الذي لا يخفى على البصير، ولا يغيب على كل ذي عينين أن الصراع بيننا وبينهم صراع عقيدة، وصراع ثقافة، وصراع حضارة، وصراع هوية، وصراع وجود، لا صراع أرض وحدود!
واليوم؛ كشَّرت الصهيونية المقيتة عن أنيابها، وشمَّرت عن ساعدها لتضرب بيدٍ من حديد، وتقتل المسلمين في غزة الأبية، فانكشفت حقيقة شعارات حقوق الإنسان والدعوة إلى التعايش والتسامح ونبذ ثقافة العنف والكراهية، ليتضح لنا جليا أن الحقوق التي تعنيها منظمة الأمم المتحدة هي حقوق الصهاينة لا حقوق المسلمين.
هذا يوم تكشَّفت لنا فيه سُحبُ الخائنين، وتساقطت أمامنا راياتُ العلمانيين، وتَعرَّى لنا أذنابُ المستشرقين، وسكتت عندها أصواتُ الأدعياء الكاذبين.. فشلال الدم الذي يتدفق في غزة الآن لن يذهب هدراً، فهو -على مرارته- شهادة وفاة نهائية لكل مشاريع الرضوخ للإملاءات الصهيونية المدعومة بتواطؤ المجتمع الدولي!!
أجل فقد سقطت مؤامرات التسوية التي تعني تصفية ما تبقى من القضية الأم، بإقامة كيان هزيل عميل يحمي العدو ويبطش بمن يبقى من أبناء فلسطين تحت قبضته، وليس أدل على ذلك من عجز فلول تلك الأجهزة عن إزالة قوى المقاومة واضطرار العدو إلى القيام بمحاولات عسكرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *