من الشبهات التي يثيرها العلمانيون حول ضرورة إقرار الدولة المدنية: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين مرجعية لها.
أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية. أما المواطنة بمعنى الاعتراف لكل قاطن في الدولة الإسلامية سواء كان مـن المسلـمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن؛ فهذا لا ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات؛ فكل إنسان له حق في العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يُكرَه على تغييره، وله الحق في العبادة، وله الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرماً في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يعطاها المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن دولتهم دولة مدنية.
لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم؛ وهذا أمر لا غرابة فيه، ما دام أن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون. لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف بعض أحكامهم انطلاقاً من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره.
وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء؛ بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص منها من الدين الذي ينبغي اتباعه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغُ عن ربه وحيَه وأمرَه فيمن قتل ذمياً بغير جرم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامـاً» (البخاري:6403)، وقد قال المسلمـون لعمـر رضي الله تعالى عنه: «أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ» (البخاري:2927). وأوصى بهم عند موته فقال موصيا من بعده: «..وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أن يُوفى لهم بعَهْدِهِمْ، وأن يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وأن لا يُكَلَّفُوا فوقَ طَاقَتِهِمْ» (البخاري:1305).
ومر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: وهو شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: مِن أيِّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ} [التوبة:60] والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه» (سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين د. عبد الله بن إبراهيم اللحيدان، وعزاه إلى الخراج لأبي يوسف، ص 126).
وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله». (انظر: الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية؛ محمد بن شاكر الشريف).
فأي عدل فوق هذا؛ وأي سماحة تعلو سماحة الإسلام!!
ولكن العلمانيين لا يفقهون.