سقوط القومية العربية وبداية مرحلة اليقظة

..كانوا يستغلون فكرة القومية والوطنية لإشعال الحرب الضروس على الدين وعلى كل من يدعو إلى الانتماء إلى الإسلام أو يوالي أو يعادي في هذا الدين حتى مسخت الأمة تقريباً مسخاً كاملاً أو شبه كامل.
..ونتيجة لهذا الشعور – رسوخ الفكرة القومية عند الناس – أصبح لا يمكن أن تنظر إلى أي أحد وتقول هذا مسلم أو نصراني ولا يمكن أن تسأل عن هذا، وما كان أحد يستطيع أن يتحدث بهذا إلا ويحتقر ولا يستطيع أن يكتب في مجلة أو يتكلم في الإذاعة وهو يخالف فكرة القومية العربية أو الأخوة العربية والرابطة العربية واللغة المشتركة والتاريخ المشترك.
بعد الحرب العالمية الثانية نسيت القوميات تماماً في أوروبا فأصبحت التكتلات عقائدية وعسكرية، وأصبحت أروبا في الحقيقة معسكرين: حلف وارسو وحلف الناتو (شمال الأطلسي)، حلف شمال الأطلسي يضم الولايات المتحدة الأمريكية ومعه دول غرب أوروبا كلها على اختلاف مللها ومذاهبها الدينية وقومياتها، وأوروبا الشرقية الشيوعية على اختلاف أجناسها وأعراقها أصبحت كتلة واحدة بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945م، بعدها وقع ميثاق جامعة الدول العريبة ثم ظهرت الأحزاب وأسست حزب البعث، فلما ظهر المعسكر الشرقي الاشتراكي اندمجت الفكرة الاشتراكية في الحركات القومية والوطنية لأنها كلها مستوردة من الغرب، فقامت الثورة المصرية وحَوَّلَها جمال عبدالناصر من فكرة وطنية إلى فكرة قومية.
إن الغرب أراد هذا بوضوح، أراد أن لا يكون هناك أي رابطة أو جامعة إسلامية وإنما يكون المبدأ القومي هو الذي يجمع هذه الشعوب جميعاً.
وتحت شعار الحركة القومية والحركة البعثية نشأت في دول أخرى – مثل دول الجزيرة العربية – الفكرة الوطنية التي لم تكن معروفة من قبل، ففي هذه البلاد في عمان في اليمن مثلاً، ما كان الناس يعرفون على الإطلاق فكرة التفاخر بالحضارات القديمة وبالوطنية ولا يعلمون عنها أي شيء فضلاً عن القومية، فنجد أن القوميين تبنوا إحياء هذه الحضارات والآثار القديمة، بل مع أنهم يدعون القومية العربية ويتعصبون للغة العربية أحيوا ما يسمونه التراث الشعبي والأشعار النبطية وما أشبه ذلك، وهذه كلها عوامل تفتيت للأمة إلى قوميات، القومية تفتت إلى وطنيات، الوطنية تفتت إلى قبليات وحزبيات وحضارات مختلفة، وكل هذا بغرض تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية وحل رابطة الولاء والبراء لديها، فأصبح الإنسان لا يوالي ولا يعادي إلا في ما يعتقد من قومية أو وطنية.
وروِّج لشعار القومية إلى حد لو أن أحداً يقول هذا العربي ليس مسلماً لاستنكر أشد الاستنكار في أي مكان، ورسخت فكرة القومية العربية حتى قال شاعرهم:
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا *** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنّمِ
هبوني ديناً يجعل العرب أمةً *** وطوفوا بجثماني على دين برهمِ
بلادك قدمها على كل ملةٍ *** ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُمِ
والثاني يقول :
داع من العهد الجديد دعاك *** فاستأنفي في الخافقين علاكِ
يا أمة العرب التي هي أمنا *** أي افتخارٍ نميته ونماكِ
ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، وإيليا حاوي، إلياس أبو شبكة.. الخ، هؤلاء كلهم هم الشعراء الذين يتغنى الناس بأفكارهم، بل حتى أحمد شوقي الذي يقول:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد *** فلا دين يفرقنا ولا حد يباعدنا
وأصبحت المفاخرة بأن أبناء الوطن جميعاً يعملون ضد الاستعمار وضد القوى الرجعية، والرجعية هي الدين في نظرهم، فكانوا يستغلون فكرة القومية والوطنية لإشعال الحرب الضروس على الدين وعلى كل من يدعو إلى الانتماء إلى الإسلام أو يوالي أو يعادي في هذا الدين حتى مسخت الأمة تقريباً مسخاً كاملاً أو شبه كامل، وأصبحت نظرة كل الناس إلى الأمة العربية والوطن العربي: فإن درست الجغرافيا فهي جغرافية الوطن العربي، وإن درست الثروة فثروة الوطن العربي، وإن درست السكان فهم سكان الوطن العربي، وإن تحدث أحد عن الأخطار فإنه يتحدث عن الأخطار على الأمة العربية. وفي الحقيقة أنه مجاملة لهؤلاء الحفنة من النصارى في لبنان ومصر تخلى الباقون عن دينهم، والتعبير الذي كان ولا يزال إلى هذه الأيام مستخدم أن يقال (الأمتين) الأمة العربية والأمة الإسلامية! ومن أجل هؤلاء تجعل الأمة الواحدة التي قال الله تعالى عنها “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً” تجعل أمتين!
ونتيجة لهذا الشعور – رسوخ الفكرة القومية عند الناس – أصبح لا يمكن أن تنظر إلى أي أحد وتقول هذا مسلم أو نصراني ولا يمكن أن تسأل عن هذا، وما كان أحد يستطيع أن يتحدث بهذا إلا ويحتقر ولا يستطيع أن يكتب في مجلة أو يتكلم في الإذاعة وهو يخالف فكرة القومية العربية أو الأخوة العربية والرابطة العربية واللغة المشتركة والتاريخ المشترك، وهذا خلاف ما ذكر الله تبارك وتعالى “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” ولما قاله صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى”، وكان العراقي مثلا وإن كان يدعي القومية العربية إلا أنه يفتخر بالآشورية والبابلية والكلدانية، وأهل الشام وإن كانوا أيضاً يدعون القومية العربية والبعثية إلا أنهم يفتخرون بآثار السومريين والفينيقيين، وفي مصر يفتخرون بالآثار الفرعونية وغيرها.
تفتتت القومية العربية بحربين، الأولى حرب لبنان، لو تأملنا تاريخ لبنان التي كانت منطلقاً لتمزيق الأمة الإسلامية والدولة العثمانية – والرابطة التي جمعتهم هي رابطة القومية – فأراد الله عز وجل أن تتمزق لبنان نفسها وتصبح فئات متناحرة: فالموارنة طائفة، والأرمن طائفة، والموارنة انقسموا إلى أحزاب: حزب شمعون وحزب مع فرنجية وحزب مع الجميّل وهكذا.. والدروز لهم حزب ولهم إذاعة وجيش، والرافضة حزبين: حزب الله الشيعي الرافضي، و “أمل” نبيه بري، وهم كلهم رافضة.. فتمزقت البقعة الصغيرة هذه التي من أجلها مزقنا الأمة الإسلامية وجعلناها أمتين، أمة عربية وأمة إسلامية، حتى أنه إذا عقد مؤتمر الأمة العربي يحضر رئيس لبنان، فإذا عقد مؤتمر إسلامي يحضر رئيس لبنان وهو نصراني! فمن أجلهم ضيَّعنا ولاءنا وانتماءنا لديننا وعقيدتنا.
فبدأت القومية العربية في الانتكاس بهذا الحال ومزق الله حزب البعث في سوريا والعراق، عداوة مستحكمة بحيث أنك تتعجب كيف أن كل واحد منهم لو مكّن لكان أول ما يبدأ يفترس ويبطش بأخيه البعثي الآخر، وتجد سجون العراق ملأى بالبعثيين السوريين الموالين “لصلاح بكداش”، وسجون سوريا ممتلئة بالبعثيين المنتمين إلى “ميشيل عفلق” و”حسن البكر” وأمثاله.
وفي مصر عندما جاء أنور السادات تخلى تماماً عن القومية العربية ورجعت مصر وسمت نفسها جمهورية مصر العربية.
أما بالنسبة للقذافي الذي هو تلميذ جمال عبد الناصر كان يريد أن يعمل دولة موحدة ولم يوفقه الله لأنها لا تقوم على أساس الإسلام فتمزقت أيضاً رابطة القومية العربية بين مصر وليبيا.
وجاءت الحرب الثانية هي حرب الخليج، فأصبح العرب حتى في داخل البيت الواحد وداخل الحزب الواحد وداخل الدولة الواحدة بعضهم يقف مع العراق وبعضهم يقف ضد العراق وتشاحن الطرفان، البعثيون السوريون الذين يربطهم بالعراق رابطة القومية والبعثية هم أيضاً دخلوا ضمن الجيوش التي دخلت إلى العراق وقتلت من العراقيين ما قتلت! فبعدما كانوا يتقاتلوا في لبنان هذا يؤيد “عون” وهذا يؤيد “شمعون” أصبحوا يتقاتلون بأنفسهم وجهاً لوجه مما جعل القومية العربية تدخل حالة الاحتضار.
والحمد لله أن المسلمين أفاقوا إلى حد كبير فنجد ما حدث في أفغانستان أو في الفلبين أو في البوسنة والهرسك وغيرها جعل المسلمين يشعرون بضرورة الولاء الإسلامي وأن تكون العقيدة هي الرابطة، فالكل اشتركوا وجاهدوا ولو بالمال ولو بالدعاء لاخوانهم المسلمين، هذه المصائب وهذه المحن جعلت المسلمين يشعرون بأننا أمة واحدة في آمالها وآلامها، لأنها واحدة في عقيدتها وفي قبلتها وفي كتابها وفي سنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وفي كل الأواصر والروابط.
ولا توجد أمة أو حزب أو أي رابطة أعمق في التاريخ من هذه الأمة، لأنها فوق كل القوميات والعنصريات والعصبيات، ولا فخر بالحجارة والطين كما يفتخرون، هذا عنده أهرامات وهذا عنده حدائق بابل وأولئك بنوا مدائن صالح وهؤلاء بنوا إرم مثلاً، نحن نفخر وننتمي ونعتز بالانتماء إلى ركب الإيمان، ركب الانبياء، ركب النبي الذي بنى هذا البيت “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً”، هذا هو البناء الذي يجمعنا والذي نفتخر به والذي نعتز بأننا والحمد لله نعبد الله سبحانه وتعالى ونفتخر بالعبودية لله باستقبالنا هذا البيت الذي بناه أنبياء الله وحجه أنبياء الله، فهذه هي حضارتنا وآثارنا وانتماؤنا الذي نفتخر به وما عدى ذلك فكلها جاهليات وعصبيات ممقوته مذمومة، إنما جاء الإسلام للقضاء عليها ولحربها ويكفيها أنها جاهلية كما سماها الله تعالى وسماها رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *