نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

خامسا: هل قال ابن رشد بالحقيقتين؟:
اُشتهر عن ابن رشد أنه يقول بالحقيقتين في موقفه من الشريعة والفلسفة، وتضاربت مواقف الباحثين في تأييد ذلك ونفيه عن ابن رشد، فما هي تفاصيل موقفه من المسألة؟، وهل قال بتعدد الحقيقة أم لا؟
توجد شواهد من أقوال ابن رشد تدل على أنه قال بتعدد الحقيقة، وله شواهد أخرى تدل على قوله بالحقيقة الواحدة، فمن الشواهد التي تدل على قوله بالحقيقتين، أنه قرر أن الشريعة حق، والفلسفة حق، والحق لا يُضاد الحق، وهما متوافقتان متطابقتان، وكل يُتمم الآخر، وهما مصطحبتان بالطبع متحابتان بالجوهر والغريزة، ولا مخالفة بينهما، ونص أيضا على أن الشرائع كلها حق، وإن تفاضلت فيما بينها، وعلى الفيلسوف أن يختار أفضلها.
فهذه الشواهد تُبين أن ابن رشد كان يرى أن كلا من الشريعة والفلسفة منفصل عن الآخر ومستقل عنه، وله ذاتيته وخصوصيته من جهة، وأن كلا منهما حق ومتطابق ومتوافق مع الآخر من جهة ثانية، وحتى الشرائع -على اختلافاتها وتناقضاتها- هي عنده كلها حق، وإن تفاضلت فيما بينها، فهي على تعددها كلها حق!. وهذا كله يستلزم القول بتعدد الحقيقة بالضرورة.
وأما الشواهد التي تدل على أن ابن رشد يقول بالحقيقة الواحدة، فهي مبثوثة في مؤلفاته، وكررها مرارا في مواضع كثيرة من مصنفاته. فمن ذلك أنه كان يعتقد أن الفلسفة الأرسطية هي الحق المطلق، ونظرها صحيح فوق نظر جميع الناس، حتى اعتقد فيها العصمة. وكان يرى ضرورة تأويل ظواهر الشرع المتعارضة -حسب زعمه- لتتفق مع الفلسفة الأرسطية، الأمر الذي يعني أن الحقيقة واحدة متمثلة في هذه الفلسفة، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فهو باطل، وما عارضها من الشرع يجب تأويله ليتفق معها، لأن هذه الفلسفة هي مرجع الحق ومصدره ومعياره عند ابن رشد.
وبذلك يتبين أن الرجل قال بوحدة الحقيقة وتعددها، وبمعنى آخر أنه أظهر القول بتعدد الحقيقة ووحدتها، فهو متناقض مع نفسه، مع أن القول بذلك لا يصح شرعا ولا عقلا، فأما شرعا فإن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} سورة يونس: 32 وأما عقلا فلا يصح فيه تصوّر حقيقة متعددة، فهي واحدة وإن تعددت زوايا النظر وطرق الوصول إليها. فلا يصح أن نُخلط بين الحقيقة ذاتها، وبين طرق الوصول وزوايا النظر إليها.
فما حقيقة موقف الرجل من هذه المسألة؟، نعم إن أقواله الظاهرة متناقضة، وقد تعمد إظهارها، لكن حقيقته الداخلية أنه لم يكن يُؤمن بتعدد الحقيقة، وإنما كان يُؤمن بوحدتها المتمثلة في الفلسفة الأرسطية التي بالغ في تعظيمها والغلو فيها، وتأويل الشرع من أجلها، وهذا أمر صرّح به علانية. لكنه -يبدو لي- أنه أظهر القول بتعددها ليجد مسلكا في تعامله مع خصومه المنكرين عليه اشتغاله بالفلسفة من جهة، ويتخذ لنفسه موقفا في تعامله مع الشريعة من جهة ثانية. ويبقى متمسكا بمذهبيته الأرسطية من جهة ثالثة.
وبذلك يتبين جليا أن وحدة الحقيقة التي قال بها ابن رشد هي (الحقيقة) التي قالت بها الفلسفة الأرسطية المشائية، وليست الحقيقة التي نص عليها دين الإسلام، علما بأن الحقيقة لا يمكن أن تتعدد أبدا، وموقفه هذا باطل شرعا وعقلا. لأن الشرع يفرض عليه -كمسلم- أن يلتزم به قلبا وقالبا، فكرا وسلوكا، ولا يسمح له أبدا أن يتخذ غيره مصدرا للفكر والعقائد والأخلاق والمعاملات، لقوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة الأنعام: 153، و(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) سورة النساء: 65.
وأما عقلا فإن العقل البديهي الصريح الموضوعي مع نفسه، لا يقبل من صاحبه أن يعتقد بدين، ثم يتركه وراء ظهره ويتبنى أفكارا ومذاهب تزاحمه، أو تتقدم عليه، أو تخالفه. وهذا هو حال ابن رشد مع دينه وفلسفته الأرسطية!!
وإكمالا لما أوردناه أذكر هنا مواقف بعض أهل العلم من الحقيقة عند ابن رشد، أولهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، ذكر أن ابن رشد جعل الجمهور يعتقدون الباطل الذي هو خلاف الحق، الذي عليهم أن يحملوه، وأما أهل التأويل فلهم الحق الذي هو خلاف ذلك الظاهر، وقوله هذا صريح في أنه كان يرى أن ابن رشد يقول بوحدة الحقيقة الفلسفية الأرسطية المخالفة للشرع الذي يجب تأويله ليتفق معها.
والثاني هي الباحثة زينب محمد الخضيري، فإنها ترى أن ابن رشد تمسك دائما بفكرة الحقيقة بين الفلسفة والشرع، بمعنى أنه توجد حقيقة واحدة دائما، وإن كان لها تعبيران: فلسفي وديني، وكأنهما وجهان لعملة واحدة.
نعم إنه قال بوحدة الحقيقة، لكنه أظهر القول أيضا بتعددها، فالرجل كان مزدوج الخطاب في موقفه من الحقيقة، فهو وإن كان يعتقد في باطنه بوحدتها المتمثلة في الفلسفة اليونانية أساسا، فإنه ظل يُظهر أيضا القول بتعددها، ولم يقل بأن للحقيقة تعبيرين: فلسفي وديني، وإنما قال بأن للحقيقة مضمونين متعددين: شرعي وفلسفي، والمضمون الفلسفي هو الحق والأصل، فإذا تعارض المضمون الشرعي مع الفلسفة الأرسطية أُوّل ليتفق معها، وإذا لم يتعارض معها فهما حقيقتان يُعبران عن حقيقة واحدة منطلقها الفلسفة الأرسطية أولا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *