أزمة الجامعة المغربية من أزمة التعليم عموما، إلا أن خصوصيتها كمؤسسة للتعليم العالي جعلتها تعاني من مشاكل من نوع خاص، كما جعلتها تفرز مطالبَ خاصة.
يمكن إجمال هذه المطالب في الآتي:
–تعميم المنح والسكن الجامعي: وهذا مطلب موضوعي، يقوم على أساس استنفاد الطالب لجزء من قيمة الإنتاج الاجتماعي، وهو الجزء المخصص له حتى تستمر علاقته الإيجابية ببنية الإنتاج. السؤال المطروح: لماذا لم يتمكن الطالب إلى اليوم من استنفاد الجزء المخصص له؟ والجواب هو: أن تلك القيمة المخصصة للطالب تضيع بفعل الإنتاج المضاعف لفائض القيمة، فكلما استُنزِف المنتجون في عملية الإنتاج، إلا وانعكس ذلك سلبا على أوضاع المقبلين على التوظيف في بنية الإنتاج. فلا حاجة إلى كثير منهم في ظل “مزاحمة على العمل” من جهة، ومن جهة ثانية فإن مالكي وسائل الإنتاج لا ينفقون على الإنتاج ووسائله إلا بقدر الحاجة، وحاجة الرأسمال هي الربح. تتدخل الدولة لفرض نوع من التوازن بين مصلحة الطلبة ومصلحة الرأسمال، إلا أن هذا التدخل يبقى محدودا بإكراهات موضوعية يفرضها قانون الرأسمال نفسه. الضغط إذن ليس موجها للدولة في حقيقته ومنتهاه، بل للرأسمال وتصرف الدولة في علاقتها به.
–توسيع الشبكة المؤسسية للجامعة: وهذا المطلب نفسه خاضع للقدرة، لإمكانات الدولة المالية، وهذه نفسها محكومة بواقع الرأسمال الداخلي وعلاقته بنظيره الأجنبي. قدرة الرأسمال على التوظيف، حدوده في تطوير قوى إنتاجه، وضعيته الضريبية، موقعه في ميزان الرأسمال الداخلي، تصرفه الاستهلاكي والادخاري؛ كلها عوامل مفسرة لانحسار الشبكة المؤسسية الجامعية أو امتدادها، بحيث أنه كلما اتسعت قدرة الرأسمال إلا وتحققت لديه القابلية بل والحاجة لتطوير قوى إنتاجه، وبالتالي توسيع شبكته العلمية (الجامعية). للدولة حاجات قد لا تكون هي نفسها حاجات الرأسمال (الخاص بالضبط)، بحكم خصوصية العلاقة بين الاقتصادي والسياسي في المغرب؛ ولذلك قد تلتقي خطتها مع مطالب الطلبة، فيكونان معا مصدر ضغط على الرأسمال للتنازل عن بعض أرباحه لفائدة المجتمع، ومنها توسيع خبرته بتوسيع الشبكة الجامعية وغيرها.
–إصلاح مناهج البحث والتدريس: خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية فيما يتعلق بالبحث، والطبيعية والبحتة فيما يتعلق بالبيداغوجيا وطرق التدريس. يسيطر الرأسمال عالميا، فيفرض كافة بناه الفوقية، بما فيها مناهجه في البحث والتدريس. هناك منطق مفروض إذن، على كافة دول العالم في المركز الغربي وأطرافه، إلا أن للدول حيزا من المناورة ومن الحركة خارج “التقسيم الدولي للمعرفة”.. التاريخانية والجدلية مطلب علمي في مناهج البحث، يرفضه التقسيم الدولي، فيما تحتاجه الدول لترتيب أولوياتها كما يحتاجه الطلبة كحق من حقوقهم العلمية. أما بخصوص مناهج التدريس، فالمطلوب أن يتلقى الطلبة من العلوم البحتة والطبيعية بقدر الحاجة التقنية والأفق النظري لدولتهم ومجتمعهم، لا بقدر ما يطلبه “التقسيم الدولي للعمل”.. علما أن التوافق مع هذا التقسيم قد يصبح في شرط خاص مطلبا للجميع، بوعي تاريخي قلنا إن الحركة الطلابية في حاجة إليه.
–إطلاق أوراش الترجمة: هناك “سوق لغوية” هي انعكاس للسوق الاقتصادية، كما تؤثر هي نفسها في هذه السوق؛ هناك أيضا “تقسيم دولي للغة” شبيه من حيث مناطق النفوذ والسيطرة والاستثمار ب”التقسيم الدولة للعمل” (كذا “التقسيم الدولي للمعرفة”).. من حق الطلبة امتلاك خبرة بلغتهم الوطنية، والمساهمة بهذه الخبرة في التقسيم المذكور. وليس قرار فتح أوراش الترجمة بالقرار السهل، بل يفتح “مناطق اشتباك” ربما تعاكس المصلحة الوطنية في الشرط الحالي.. ولذك وجب على الحركة الطلابية التمييز بين أفق مطلب الترجمة وحدوده الموضوعية، لأن التقدم فيه يتعلق بمدى اتساع تلك الحدود.. والمطلوب أيضا تجاوز الحدود غير الموضوعية، أي تلك المتوهمة وغير الحقيقية. لا تتقدم الجامعة إلا بلغة الدولة، أما إلى أي حد يجب تحريك هذا المطلب فذلك ما أسميناه بـ”مراعاة الحدود الموضوعية”.
–ربط الجامعة بسوق الشغل: البطالة تعبير عن فقدان التوازن بين الجامعة والاقتصاد، وهذا ناتج عن تناقض بين منطقين: منطق الرأسمال ومنطق باقي الفئات والطبقات (والكتل) الاجتماعية. وليست هذه الوضعية وليدة شرط داخلي محض، بل في علاقته بالشرط الخارجي، أي بتدخل الرأسمال المركزي في رأسماليات الأطراف… تفرض تلك العلاقة، ومعها التفاوت الناتج عنها داخليا، واقع رأسماليا حيث: استغلال العاملين (استخراج فائض القيمة من قوة عملهم)، وبطالة من لم يحصلوا على فرص شغل (نتيجة “المزاحمة على العمل”).. الجامعة في هذا الواقع لا تعدو أن تستجيب للمطلوب من الخبرة واليد العاملة، والمطلب: استجابة الرأسمال لمطالب الجامعة بقدر ما تستجيب هي لمطالبه، لكن مع “مراعاة الحدود الموضوعية” المذكورة سابقا، أي ما يقدر الوطن على اقتحامه من “نقط اشتباك” وتقدم في “تقسيم دولي صارم للعمل”..
ليست هذه المطالب وليدة هذه الفترة من الزمن المغربي، بل وُضِعت على طاولة المشرفين على قطاع التعليم العالي منذ تأسيس الجامعة المغربية، وما زالت كذلك إلى اليوم. تحققت فيها بعض الإصلاحات والمكتسبات، لكنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب؛ بما يحسّن ظروف التدريس ويرفع من جودة الدرس ويتماشى مع متطلبات الاقتصاد والإدارة الوطنيين.
واليوم، تلح هذه المطالب على المسؤولين أكثر من ذي قبل، نظرا لما يلاحَظ من تدني مستوى التلقين في الجامعة، وما ينفجر بين الفينة والأخرى من ملفات فساد تسيء لسمعة الجامعة المغربية التي خرّجت المثقفين والزعاء السياسيين والنقابيين والفقهاء والإداريين والمهندسين والتقنيين والأطباء والأدباء والمفكرين… يجب الحفاظ على هذه الوتيرة من التخريج وبنفس الجودة أو أكثر، لا أن تصبح الجامعة مظهرا من مظاهر التراجع، تتأثر بمشاكل المجتمع عوض أن تساهم في إيجاد حلول لها.