استقر الرأي على أن للعقوبة في النظام الوضعي ثلاثة أغراض: تحقيق العدالة، والردع العام، والردع الخاص، ويمكن أن يضاف إليها أغراض أخرى، كالجبر وإصلاح المجرم، والله عز وجل قصد بأحكام الشريعة إقامة المصالح الأخروية والدنيوية معا، وما دامت كذلك، لا بد أن يكون وضعها على هذا الوجه أبديا، وكليا، وعاما، في جميع أنواع التكليف، والمكلفين، وفي جميع الأحوال.. |
وفق ما قرره الباحثون في التشريع الجنائي، فقد كان الهدف الرئيسي من فرض الحدود في الإسلام هو تقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من هذه الجرائم التي تهدد المجتمعات الإنسانية بالقضاء على مقوماتها الأساسية: الأعراض، والأموال والعقول والأرواح، ويعرض د. حسني الجندي في مؤلفه (المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام) هذا الأمر بقوله:
هناك من النوازع الشريرة التي يستجيب لها الإنسان؛ فينتهك الأعراض في غفلة من ضميره؛ مدفوعا بدافع الغريزة الجنسية، ومستسلما للمثيرات الخارجية، أو يسرق الأموال مدفوعا بدافع التملك، وقد يشرب الخمر؛ تلبية لنداء شهوة عارضة، وقد يقطع الطريق، مستوليا على أموال الناس، ومزهقا أرواحهم؛ استهانة منه بالأحكام الشرعية، والتقاليد المرعية؛ ولذلك حارب الإسلام هذه الجرائم، ووضع لها من العقوبات الرادعة ما يجنب المجتمع شر الوقوع فيها. فشرعت الحدود عقابا على هذه الجرائم؛ وردعا لمرتكبيها، وتقويما لسلوكهم، وعظة لغيرهم؛ حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه هؤلاء المعتدون، وهو ما يؤكده قوله -عز وجل- في عقاب الزنا: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور:2)، وبذلك: صان الإسلام الأعراض، فلم تنتهك بفعل أو قول، ومن انتهكها بفعل حدّ حدّ الزنا، ومن انتهكها بقول حدّ حدَّ القذف.
ومما سبق يتضح لنا حرص الإسلام على حماية الأعراض، وصيانتها بسائر الوسائل الممكنة، ومن بين هذه الوسائل سن التشريعات الكفيلة بحمايتها، والمحافظة عليها. إذ لا يخفى -علينا -ما في انتهاكها من أخطار جسيمة: على الأسرة، والمجتمع؛ فالأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، فإذا فسدت فسد المجتمع الذي يتكون منها، وإذا صلحت صلح المجتمع، وصار جديرا بالحياة.
كما صان الإسلام الأموال، واحترم الملكية الفردية؛ تشجيعا للعامل، وأخذا بيد المجد إلى الأمام؛ «فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه». وقد حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية إلى جريمة السرقة بعوامل نفسية تصرف الإنسان عن ارتكابها، فإذا ساومت الإنسان الدوافع الشريرة، قاومتها الصوارف النفسية التي ولدتها عقوبة القطع؛ فينصرف عن ارتكاب جريمته.
وصان الإسلام العقول؛ فحرم الخمر لما فيها من ضرر يلحق العقل، ولما فيها من قضاء على الأموال في غير طائل.
وحرصا من الإسلام على حماية النفوس البريئة، والأموال والملكيات؛ فقد شرع عقوبة لهؤلاء الذين ينهبون الأموال، ويقتلون الأنفس؛ معتمدين على قوتهم وشوكتهم قال سبحانه وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة:33).
ومع ذلك فلا يغرب عن البال: أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات، ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفاديا لتوقيع الحدود، إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هذه الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة، وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن، بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد -بأصوله الشرعية- أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن -قلت أو كثرت- وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة، تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض.
وأضاف د. حسني الجندي في عرض أغراض العقوبة بصفة عامة، وتحديدها قائلا: والهدف الأخير للعقوبة، -و الغرض الحقيقي لها- هو حماية الحقوق والمصالح التي قدر الشارع أنها جديرة بالحماية الجنائية -وهي بلا شك حقوق فردية واجتماعية- ومكافحة الإجرام.
ولكن نظام العقوبات، وتطبيقها يهدف إلى إدراك هذا الهدف عن طريق أغراض أخرى قريبة لها، يعد تحقيقها بمثابة الوسيلة إلى بلوغ ذلك الهدف، بل إن تحقيق هذه الأغراض -أو الوسائل- يتم بالسعي إلى إدراكها عن طريق وسائل أخرى يرجى من وراء تحقيقها تحقيق الوسائل السابقة، والتي يرمى منها بدورها إلى إبراز الغرض الحقيقي والوحيد.
وإذا كان السائد في الوقت الحاضر أن غرض العقوبة هو إصلاح المجرم وتأهيله في المجتمع؛ فإن هذا الغرض لا يفهم مجردا دون الإلمام بفهم الأغراض الأخرى.
وقد نالت أغراض العقوبة الاهتمام البالغ من المفكرين؛ فكانت الأنظمة القديمة تحدد للعقوبات أغراضا تهدف إليها، واستقر الرأي على أن للعقوبة نوعين من الأغراض، أو نوعين من المقاصد -كما يقول علماء الشريعة-: مقاصد مادية وأخرى معنوية. وبالجملة، هي في النظام الوضعي ثلاثة أغراض: تحقيق العدالة، والردع العام، والردع الخاص. ويمكن أن يضاف إليها أغراض أخرى، كالجبر وإصلاح المجرم.
والله -عز وجل- قصد بأحكام الشريعة إقامة المصالح الأخروية والدنيوية معا، وما دامت كذلك، لا بد أن يكون وضعها على هذا الوجه أبديا، وكليا، وعاما، في جميع أنواع التكليف، والمكلفين، وفي جميع الأحوال، أي كما جاء في قول الله: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} (مريم:40).