الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أفراد الأمة كل بحسبه

“لعل قائلا يقول كيف جعلتم الأمة كلها مخاطبة بهذا الأمر، والآية تقول: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ” وهلا ترون أن ذلك موقع في الفوضى موجب لاختلاف النظام؟

ونحن نجيب أن الآية جاءت على أسلوب التجريد، وهو أبلغ في الخطاب، والمعنى اجعلوا منكم أمة هذه صفاتها، وقال كثير من المفسرين أن من في قوله “وَلْتَكُن مِّنكُمْ” للبيان، بمعنى كونوا أمة تأمرون، ألا ترى أنه تعالى قال في الآية بعدها: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ” ولو جعلناها للتبعيض كما قد يتوهم، وحكمنا بأن الأمر والنهي فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكان ذلك موقعا في الحرج الدائم، لأن المنكرات لا تفتأ تنبعث من كل مكان، في كل زمان، وإذا لم تبادر الأمة بتغييرها وانتظرت حتى ينبري لذلك من يتعين عليه، انتشرت انتشارا عظيما وأتمت الأمة كلها بسبب التفريط، لاسيما إذا انعدم المحتسب الذي كانت الحكومة تقيمه بمقام النائب عنها في هذا الصدد، كما هو الحال اليوم، فصارت بلاد الإسلام مسرحا لارتكاب أنواع الفجور واقتراف ضروب الآثام.
وأما خطاب الأمة على سبيل العموم بهذا الواجب يوقع في الفوضى ويوجب اختلال النظام، فالجواب عنه: أن الشارع الحكيم بين لكل طائفة من الأمة ما يجب عليها من ذلك، وألزمها القيام به على سبيل الفرض والتعيين، فقال كما في الحديث المشهور: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، قال العلماء التغيير باليد لولاة الأمر، وباللسان للعلماء، وبالقلب لعامة الناس، وإنما اضطر العلماء إلى هذا التفصيل، لمَّا عم الجهل وكثر تجاوز الحدود من العامة وبعض الولاة، فانتظم بذلك الأمر ووقف كل عند ما حد له.
وهذا الحديث هو أيضا مما يدل على أن الخطاب بهذا الواجب يتوجه إلى الأمة جمعاء، ولا يخص طائفة منها دون طائفة، وتقييد العلماء له بما ذكر هو مما تقتضيه الأصول، ولا تأباه النصوص، فإنهم يتفقون على أن المنكر الذي يجب تغييره هو ما علم من الشرع أنه منكر، وكان تغييره لا يؤدي إلى منكر أشد منه، ومن ثم ورد الأمر بالسمع والطاعة للأئمة، فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، وهذا أمر لا يحققه إلا العلماء، فإن قام غيرهم بالإنكار ربما وقع في محظور كمن قتل شخصا من أجل شربه للخمر، وكالعامة الذين أنكروا على سيدنا عثمان رضي الله عنه أمورا لا تستوجب القتل وفتح باب الفتنة الذي لم يغلق منذ أن فتح وهكذا فإن الواجب على العموم إذا رأوا منكرا مما لا خفاء به، أن يرفعوه إلى الوالي وأن يقفوا في ذلك موقف الجد والصلابة حتى يغيره، فإن تهاونوا وقعوا في الإثم الذي لا مخلص منه، وإن كان المنكر مما يخفى أمره، فعليهم الرفع إلى العلماء ليبينوا حكم الله فيه، على أن العلماء يجب عليهم أن يكونوا بالمرصاد لكل المحدثات والبدع التي تخالف الدين، فيبادروا بإنكارها، وينبهوا الأمة على ما فيها من الضرر لتتجنبها، وعليهم أن يكونوا لسان الأمة الناطق، والحارس الأمين على تعاليم الدين، فيبلغوا إلى الولاة ما لم يبلغهم من الظلم والحيف الذي يقع على ضعفاء المسلمين، ويطالبوهم بتغيير المنكر والضرب على أيدي المفسدين، والولاة مطالبون حينئذ بإنصاف المظلوم وإحقاق الحق ونصرة الدين: “وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”. (الكلام بطوله للعلامة عبد الله كنون، الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب).
وقال ابن حزم رحمه الله: “اتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف بين أحد منهم لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (الفصل في الملل والنحل 2/110).
وقال القرطبي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: (دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *