الصرع أو دخول الجان بدن الإنسان وتلبسه به حقيقة أثبتها الشرع والعقل والحس والتجربة

ارتفعت في الآونة الأخيرة كثير من الأصوات التي تنكر تلبس الجن بالإنس (المس والصرع والاقتران الشيطاني) خاصة حاملي الفكر الاعتزالي وأصحاب المدرسة العقلية، وهذه الظاهرة في حقيقتها ليست وليدة هذا القرن إنما هي تقليد أعمى لبعض من سبق في بحث هذا الأمر.
المس لغة: مسِستُ الشيء بيدي مسا، ورجل ممسوس من الجنون، وبه مس. (العين 908)
قال ابن منظور: “ثم استعير المس للجنون كأن الجن مسته، يقال به مس من جنون” (لسان العرب 6/218).
المس اصطلاحا: “هو تعرض الجن للإنس بإيذاء الجسد خارجيا أو داخليا أو كليهما معا، بحيث يؤدي ذلك لتخبط في الأفعال مما يفقد المريض النظام والدقة والأناة والروية في أفعاله، وكذلك يؤدي للتخبط في الأحوال فلا يستقر المريض على حالة واحدة”.
قال صاحبا الكتاب المنظوم فتح الحق المبين: (والمس اصطلاحا: أذية الجن للإنسان من خارج جسده أو من داخله أو منهما معا، وهو أعم من الصرع) (فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين، ص 61).

مسألة الصرع من الوجهة الشرعية
إن مسألة صرع الجن للإنس من المسائل المقررة عند علماء أهل السنة والجماعة، وقد نقل غير واحد من أثبات أهل العلم اتفاق أهل السنة عليها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (19/9، 32، 65-24/277)، وابن القيم في زاد المعاد (4/66، 67) وبدائع التفسير (5/435، 436) وإغاثة اللهفان (1/132) والطب النبوي (ص 68-69)، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم (1/334- 2/267)، والطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (3/102)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/230، 355)، والألوسي في روح المعاني (2/49)، والقاسمي في محاسن التأويل (3/701)، وابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير (3/82)، والفخر الرازي في التفسير الكبير (7/89)، ومحمد رشيد رضا في تفسير المنار (8/366)، والحافظ بن حجر في فتح الباري (6/342-10/115،628)، والنووي في صحيح مسلم بشرح النووي (1،2،3/477-13،14،15/331- 16،17،18/102، 415)، والشبلي في آكام الجان (ص:114-115)، والشوكاني في نيل الأوطار (8/203)، وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/14)، وبرهان الدين البقاعي في نظم الدرر (4/112)، ومحمد الحامد الحموي في ردود على أباطيل 2/135، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2/8)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (2/590-591)، وابن منظور في لسان العرب (9/225)، والعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في الصحيحة (ح. 2918، 2988)، والعلامة عبدالعزيز بن باز، والشيخ بن عثيمين في مجموع الفتاوى (1/157-156، 299)، والشيخ عطية محمد سالم في العين والرقية والاستشفاء من القرآن والسنة (ص: 23)، وعبد الله بن حميد في الرسائل الحسان في نصائح الإخوان (ص:42)، والشيخ أبو بكر الجزائري في عقيدة المؤمن (ص 230) وغيرهم كثير..
ونذكر في سياق هذه المسألة كلاماً جميلاً لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حيث سئل عن حقيقة وأدلة أن الجن يدخلون الإنس، قال رحمه الله:
“نعم هناك دليل من الكتاب والسنة على أن الجن يدخلون الإنس، فمن القرآن قوله تعالى: “الَّذِينَ يَأكلونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ” البقرة، قال ابن كثير رحمه الله: “لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له”، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” متفق عليه.
قال الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة: “إنهم -أي أهل السنة- يقولون إن الجنيّ يدخل في بدن المصروع “، واستدل بالآية السابقة.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد -إمام أهل السنة-: “قلت لأبي: إن قوماً يزعمون أن الجنيّ لا يدخل في بدن الإنسي فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه”.
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الإمام أحمد والبيهقي، أنه أتي بصبي مجنون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أخرج عدو الله، أخرج عدو الله”، وفي بعض ألفاظه: “اخرج عدو الله أنا رسول الله”، فبرأ الصبي.
فأنت ترى أن في هذه المسألة دليلاً من القرآن الكريم ودليلين من السنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة وقول أئمة السلف، والواقع يشهد به، ومع هذا لا ننكر أن يكون للجنون سبب آخر من توتر الأعصاب واختلال المخ وغير ذلك) اهـ، (مجموع فتاوى ورسائل 1/ 293، 294).
ثم إنه لم ينقل الخلاف في هذه المسألة إلا عن بعض أفراد الرافضة والمعتزلة، أو من تأثر بعقيدتهم ومنهجهم من المنتسبين إلى أهل السنة، وليس مع المنكرين لتلك المسائل سواء كانت متعلقة بالصرع أو السحر أو العين كذلك، سوى شبهات عقلية واهية، وحجج نظرية متهاوية، مثل ما نقله الغزالي رحمه الله وصاحب كتاب “الأسطورة التي هوت” إذ عمدا إلى تحكيم العقل في تقرير المسائل وإصدار الحكم عليها، ولا يخفى على كل مسلم أن هذا الاتجاه يخص أصحاب المدرسة العقلية.
ولا ينكر مسلم قط أهمية العقل بالنسبة للإنسان، فالحق جل وعلا خاطب العقل في كثير من الآيات المحكمات، إلا أنه لا يجوز مطلقاً أن يترفع الإنسان بعقله فوق الأمور المادية المحسوسة ليخوض في قضايا غيبية لم ولن يصل إليها وإلى طبيعتها وكنهها مهما بلغ من العلم والمعرفة، فقضايا الغيب تقرر من خلال الوحي، من خلال النصوص النقليَّة الصحيحة، وليس لأحد كائنا من كان أن يدلو بدلوه في هذه المسائل دون الدليل النقلي الذي يؤكد ذلك، والعقل الصريح لا ينكر أيا من مسائل الصرع والسحر والعين، بل يدل على إمكانية وقوعها وحدوثها فعلاً.

العلاقة بين الجن والإنس علاقة قد تؤثر فيها الماديات لكلا الطرفين
أما أن يقال بأن الجن عالم لا تؤثر فيهم الماديات كما هو معروف بالنظر، فهو كلام عام وباطل، فالعلاقة بين الجن والإنس علاقة قد تؤثر فيها الماديات لكلا الطرفين، والأدلة والشواهد من السنة الصحيحة تؤكد ذلك، فقد ثبت من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار، ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك -ثلاث مرات- ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر -ثلاث مرات- ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة” (مسلم، صحيح الجامع 2108)، وفي رواية: “فخنقته حتى شعرت ببرد لعابه”.
ومن هنا فإن علماء الأمة يقررون الآثار المادية بين عالم الإنس وعالم الجن، وبالتالي فإن علاقة الجان بالإنسان قد تتعدى الدخول والتلبس؛ لتصل إلى الإيذاء، والمس، والصرع، والخطف، والقتل، وغيره، لا سيما أن التجربة تعضد ذلك، وهي خير شاهد عليه.
يقول الدكتور عبدالكريم عبيدات: “الاتصال بين الجن والإنس اتصال من نوع خاص، يختلف فيه عن الاتصال بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل هو اتصال يناسب طبيعة كل منهما، وفي الحدود التي رسمتها سنن الله تعالى وقوانينه الكونية والشرعية، والجن موجودون في كل مكان يكون فيه إنس، ضرورة أن يكون لكل إنسي شيطاناً وهو قرينه من الجن كما ورد في الحديث، وهم على هذا يحضرون جميع أحواله وتصرفاته، لا يفارقونه إلا أن يحجزهم ذكر الله تعالى.
والجن مسلَّطون على الإنس بالوسوسة والإغواء تارة، وتارة أخرى يلبسون جسم الإنسان، فيصاب عن طريقهم بمرض من الأمراض كالصرع والجنون والتشنج، وقد يُضلون الإنسان عن الطريق، أو يسرقون له بعض الأموال، أو يعتدون على نساء الإنس، وغير ذلك) (عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، ص:254).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *