لما أراد الله تعالى بالبشرية خيرا أرسل إليهم رسولا يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأنزل عليهم كتابا يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى: “الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” (إبراهيم)، لكن حصول الهداية بالقرءان والسنة متوقف على تحقق الشروط وانتفاء الموانع، ومن هذه الشروط حسن القصد وسلامة الفهم، ومن الموانع سوء القصد وسوء الفهم، فطالب الحق ينبغي أن يكون متجردا من الهوى، متمكنا من الأدوات التي تساعده على حسن الفهم إذا أراد أن يقتبس من النصوص الشرعية هدى.
وأما إذا اجتمع في الرجل سوء القصد وسوء الفهم فلا تسأل عنه في أي أودية الضلال هلك، ومن هذا النوع ناس تشبعوا بالأفكار الغربية حتى بلغت منهم النخاع، وصاروا عبيدا لها وأسرى، لا يستطيعون التخلص منها، ولا يرون الحق إلا فيها ولسان حال أحدهم يقول:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
قراءة النصوص الشرعية بعقيدة غربية
إن هذا الصنف من أدعياء التجديد يقرأ النصوص الشرعية بعقيدة غربية فإذا لم تسعفه فيما يهوى لوى أعناقها حتى تتفق مع ما يريد، ليَخْرُج لنا بعد طول البحث وعناء التنقيب بإسلام غربي، حتى إنه ليُخَيَّل إليك أن الإسلام أشرقت شمسه من الغرب ونحن لا ندري. فهؤلاء عوض أن يجعلوا القرءان إِمَامًا يقودهم إلى الهدى، وسراجا يستضيئون به في الدجى، تقدموا أمامه يريدون أن يجعلوه تابعا لأهوائهم وأولوا نصوصه لتكون خاضعة لأفكارهم، فَلَيْتَهُم إذ لم يهتدوا به، ولم يرضوا به إماما، تركوه لمن يعظمه ويقدره، ولا يحرف معانيه.
ومن هذا الباب تسلط بعضهم على آيات الحجاب حين ضاقت بها صدورهم، ورأوا أنها لا تتفق مع ما أنتجته الحضارة الغربية، فتراهم تارة ينكرون أن يكون الحجاب من الدين أصلا وإنما هو مرتبط بظروف اجتماعية وثقافية وجغرافية معينة، فعلى هذا لا يصح أن يناقش دينيا، وتارة يدعون أنه من المسائل الخلافية غير المحسومة.. وتارة.. وتارة.. المهم النتيجة واحدة وهي إسقاط الحجاب.
وجوابا على هذا الباطل أقول مستعينا بالعزيز الغفور:
أما إنكارهم أن يكون الحجاب من الدين، فهذا قول يُغْنِي إِيرَادُه عن رَدِّه، ولا يقول به إلا أغبياء القوم، وأما الأذكياء منهم فيعلمون أنه قول كاذب، أوهى من بيوت العناكب، وإن لم يكن بد من الرد عليهم فأقول: إذا كان الحجاب لا علاقة له بالدين فما الذي جاء به إلى القرءان الكريم، ولماذا أمر الله به المؤمنات، وهل الدين إلا امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، ألم يقل الله تعالى مخاطبا نبيه:
“وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” النور.
قوله تعالى: “وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا”، أي الوجه والكفان كما جاء تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه” (أخرجه البيهقي وصححه الألباني)، وبذلك فسره ترجمان القرءان عبد الله ابن عباس رضي الله عنه، وإمام المفسرين ابن جرير الطبري. إلا أن العالم الكبير والجهبذ النحرير “بوهندي” خلافا لكل علماء الإسلام زادنا على الوجه والكفين الأذنيين وشيئا من الشعر.
وقوله تعالى: “وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ”، الخمر: جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، والجيوب جمع جيب: وهو الفتحة التي يُدخل منها الرأس، والمقصود أن يسترن النحر والصدر بالخمار، قال القرطبي: “وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر، قال النَقَّاش: كما يصنع النَّبط، فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بِلَيِّ الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها” (الجامع لأحكام القرءان 12/205).
وقوله تعالى: “وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ”، قال القرطبي: “أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة، كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر” (الجامع لأحكام القرءان12/205)، قال ابن حزم: “هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه” (المحلى 3/216)، إذ لو كانت الرجل والساق مكشوفتين لكان الخلخال ظاهرا، و لما احتاجت المرأة إلى الضرب بالرجل لتُسمع الصوت، ولما قال تعالى: “لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ”، لكن بوهندي أعرض عن الآيات المحكمات التي تعبدنا الله تعالى بها، وذهب يستنبط الأحكام من فِعْلٍ صَدَرَ من بلقيس قبل إسلامها، ولو تأمل قليلا لوجده حجة عليه لا له، فقوله تعالى: “فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا” (النمل 44)، دليل على أنها مع شركها آنذاك كانت ساترة لساقيها، وإنما كشفت عنهما خشية البلل. فترك بوهندي الحالة الأصلية التي كانت عليها، وتمسك بتصرف عارض –وافق هواه- صدر منها لسبب عارض، فجعل الاستثناء (الكشف) قاعدة، والقاعدة (الستر) استثناء خاصا بظروف اجتماعية وجغرافية، بل وبأحوال الطقس أيضا.
وحتى لو فرضنا أن كشف الساق صدر من بلقيس بعد إسلامها، وأنه كان أصلا ولم يكن استثناء لم يصح الاستدلال به، لأنه لا حجة في شرع من قبلنا إذا خالف شرعنا.
تعامي “بوهندي” وأمثاله عن فقه آيات الحجاب
لو اكتفينا بالآية المذكورة من سورة النور، لوجدنا فيها أدلة على أمور عَمِيَ أو تعامى عنها “بوهندي” وأمثاله:
الأول: أن الله تعالى هو الذي أمر النساء بالحجاب والخمار، فإذا لم يكن ما أمر الله به دينا فما هو الدين؟
الثاني: أن الحجاب ليس هو قضية شخصية للمسلم فيها اختيار، لقوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً” الأحزاب.
الثالث: أن الإسلام لو لم تكن له عناية بالظاهر لترك المجتمع الإسلامي على عاداته وتقاليده التي كان عليها في الجاهلية، لأن الأهم هو العمق كما يزعم بوهندي، ولو رجعت إليه الفتوى في عهد النبوة لأفتى بأن “كل مجتمع وكل قوم فهم يلبسون وفق الزمان والمكان والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك، ووفق الثقافة ووفق التطور” وأن “الدين هو الخطوط العريضة” وأن “الذي ينبغي أن نأخذ من النصوص هو روحها ومقاصدها وليست أشكالها”، وأن “الشكل بشكل عام ليس مقصودا وإنما المقصود هو العمق”، ولو فهم جيل الصحابة ما فهمه “بوهندي” لما حدث ذلك التحول الذي تحدثت عنه عائشة رضي الله عنها حين قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شققن مروطهن فاختمرن بها” (أخرجه البخاري)، فإن ادعى هو أو غيره أن هذه الآيات خاصة بذلك الزمان فليحدد لنا تاريخ انتهاء صلاحيتها: (يوم../شهر../ سنة..) إن كان من الصادقين، فإن عجز عن ذلك فليتق الله تعالى وليعلم أن الله تعالى أنزل القرءان وجعله خاتمة الكتب ليُعْمَلَ به ما بقي الليل والنهار، ولأنه لا كتاب بعده فإنه تولى حفظه بنفسه لتبقى حجته قائمة على العباد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نعم، لا نشك أن الإسلام لم يلزم الأمم التي دخلت فيه بلباس العرب في الجزيرة، ولكن ألزم النساء المسلمات من مختلف الأجناس والأعراق بشروط الحجاب الكامل، فكل حجاب مستجمع للشروط فهو مقبول سواء كان مشرقيا أو مغربيا، لكن بوهندي أراد أن يدخل من هذا الباب ليأتينا بحجاب يكشف الأذن والشعر والساق، والله أعلم ماذا بعد ذلك..