التاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم، يحوي في صفحاته دروسا وعبرا للمتأمِّلين إذ هو نتاج عقول أجيال كاملة، وقد تعرض تاريخنا الإسلامي لأكبر قدر من الغزو الفكري، وركز أعداء أمة الإسلام على تشويهه، ذلك أن التاريخ -بالنسبة لأية أمة- هو مجال اعتزازها وموطن القدوة فيها.
فإذا كان تاريخ أمة الإسلام حافلاً بالأمجاد والألقاب، فإن هذا بلا شك سيكون باعثا لأبنائها على النهوض والتمسك بالمبادئ والآداب والقيم التي جعلت الأجداد يحرزون هذا المجد والفخار، ويصلون إلى هذا المستوى الراقي في بناء الأمة والحضارة، ويبحثون عن السرّ الذي رفعهم إلى هذا المستوى، ومن ثم يسعون جاهدين لانتشال أنفسهم من الوضع المتردي الذي وصلوا إليه، وأمامهم الصورة الجلية، والأسوة الحسنة في شخص رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أخرج الله به الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والأهواء وتحكم الطواغيت، إلى التوحيد والعدل والأمن والطمأنينة، ومن الفقر وضيق الحال والشتات، إلى الغنى وسعة الدنيا والآخرة والاعتصام بحبل الله، وكذا أصحابه رضي الله عنهم الذين حملوا الراية وآزروه ونصروه، وأيضاً بقية الأجيال من السلف الصالح من العلماء والزعماء والقادة والمصلحين والدعاة إلى الحق.
لقد سجل التاريخ الإسلامي صورا مشرقة لسلفنا، وأوضح دور الأمة وأثرها وفضلها على البشرية، ولذلك لا نستغرب إذا ركز الأعداء في غزوهم الفكري على التاريخ الإسلامي، حتى ناله كثير من التشويه والتحريف والتجهيل والتزييف والتفسير الخاطئ لأحداثه، ومزاحمته بتواريخ الأمم الجاهلية البائدة، حتى يبدو حلقة صغيرة أو كماً مهملاً في تاريخ البشرية.
لقد عمل على تشويه التاريخ الإسلامي في العصر الحديث جيش بل جيوش من المستشرقين والمنصرين، ومراكز ودور الأبحاث، ومكاتب المخابرات في الدول الغربية، ومن ورائهم ضحايا الغزو الفكري من العَلمانيين الذين يعملون على تكرار نفس الشبهات التي ألقاها المستشرقون، باعتبار التاريخ الإسلامي تاريخا دمويا استعماريا عنصريا غير حضاري.
فعمدوا إلى تفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية الماركسية العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والمنهج الإسلامي الرباني.
وقد تزعم كبْر هذه التهم والافتراءات زمرة من العلمانيين كمحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وأمثالهما، هذا الأخير الذي يعمل من خلال كتبه ومنشوراته على مركَسة الإسلام، فقد رفض العروي قيام المؤرخ المسلم في تفسيره للتاريخ بربط وقوع الحوادث بمشيئة الله وإرادته، ووصفه بأنه عمل فج وممل، فنراه يقول تحت عنوان (ماهية الأنماط التعليلية): “لا نتكلم هنا عن الفكرة التي نجدها في كثير من الكتب التاريخية الإسلامية، وخاصة المتأخرة منها: أي تفسير كل حادثة بالإرادة الربانية، لأن التاريخ يصبح حينئذ قسماً من علم الكلام. الحقيقة هي أن لا فرق بين استعارة الإرادة الإلهية من علم الكلام واستعمالها في التاريخ، وبين استعارة القانون الطبيعي من علوم الفيزياء أو الاجتماع أو الاقتصاد وتوظيفه لنفس الغرض، إلا أن الاستعمال الأول فج ومملّ إذا كان كل حادث يقع بمشيئة الله، ما الفائدة من سرد الحوادث في ظروفها الخاصة؟ أما الاستعمال الثاني فإنه أكثر تنوعاً ودقة” (ثقافتنا في ضوء التاريخ ص:29-30 لعبد الله العروي).
لقد شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة عدد من المغالطات والأباطيل التاريخية التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وتشويه العقيدة الصافية وصدِّ الناس عنها، كاعتبار أن الدين من اختراع العقل البشري، وأن الإنسان من سلالة -القردة، وألا إله، والكون خُلِق من تلقاء نفسه، وأن اليهود هم الورثة الحقيقيون لفلسطين عن أبيهم وجدهم إبراهيم عليه السلام، وأن الخلافة العثمانية كانت بمثابة احتلال الأتراك لأراضي العرب، إلى غير ذلك من المغالطات.
وللكشف عن حقيقة هذا الزيف التاريخي ارتأينا إعداد هذا الملف.