لماذا كل هذا الخوف من فتح نقاش حول الحدود والتشريع الجنائي الإسلامي؟ نبيل غزال

هذه ليست دعوة إلى تطبيق الحدود؛ بقدر ما هي دعوة إلى الرجوع إلى أصلَي التشريع والحكم وهما القرآن والسنة؛ فتطبيق الحدود وحده لن يحل المشكلة إذا بقيت المجالات الأخرى معطلة فيها أحكام الشريعة، لأن الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ يجب الدخول فيه كافة؛ ولا يقبل تطبيقه في الجنايات والحدود وتغييبه وتعطيله في الاقتصاد والسياسة والاجتماع..

 على الرغم من حملة التخويف والتخوين التي تقودها كتائب إعلامية، ويسوِّقها ناشطون يرفعون شعار الحرية ويمارسون بالمقابل أبشع صور الديكتاتورية، للحيلولة دون فتح نقاش حول موضوع التشريع الجنائي الإسلامي وفاعليته، إلا أن محاولات الإرهاب هذه وقمع حرية التعبير لا يمكنها إطلاقا أن تحول دون التطرق لهذا الموضوع، وكشف التزوير المتعمد للأحكام المتعلقة به.

لقد تأكد للجميع اليوم أن القوانين الجاري بها العمل عاجزة كل العجز عن الحد من الجريمة أو حتى التقليل منها؛ إضافة إلى تراكم القضايا والملفات، وفقدان المواطنين الثقة في جهاز القضاء، واكتظاظ السجون والإصلاحيات بالمجرمين نتيجة ضعف قـوة الردع، بالإضافة إلى إرهاق خزينة الدولة وتحمل المؤسسات السجنية والأمنية أعباء كثيرة مضاعفة؛ بمحاولتها معالجة إفرازات الظاهرة؛ وتعبئة القوى والطاقات للحد من انتشارها؛ دون جدوى..

ومقابل ذلك؛ فالجريمة آخذة في الانتشار والتنظيم يوما بعد آخر؛ سواء تعلق الأمر بجرائم السطو أو الاعتداء على الأشخاص أو الإخلال بالأمن العام أو الاختلاس أو التزوير أو الاحتيال.. ولم يعد المواطن المسكين يأمن على نفسه خاصة في المدن الكبرى.

وما يقتل في الدار البيضاء وحدها جراء عمليات الإجرام الفردية والمنظمة أضعاف ما قتل حدا إبان الحكم الأموي كله؛ فالحكمة والعقل والإرادة الصادقة والنظرة العميقة والمقاربة الجادة كل ذلك يحث المتدخلين والساهرين على حماية الأمن على وضع استراتيجية متكاملة للحد من ظاهرة الجريمة؛ استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار ودون حساسية كل الجوانب المؤثرة في هذا الموضوع؛ وتضع نظاما عقابيا يحفظ مصالح الناس وكذا النظام العام من الخلل والتفكك والانهيار.

لكن تبقى -وإلى حد الساعة- هذه المطالب مجرد أماني لأن الصوت العالي والخطاب المسموع هو الخطاب الاستئصالي الذي يعتمد العلمانية/اللائكية مرجعا له؛ والذي يعتبر النظام الشرعي لمحاربة الجريمة نظاما متخلفا يهدر كرامة الإنسان؛ ويصف -بصفاقة منقطعة النظير- الحدود الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة الصحيحة بالعقوبات الوحشية التي تضاعف نسبة العجزة والمعاقين في المجتمع، علما أنها أثبت بالحجة والبرهان نجاعتها وإصلاحها لأكثر من ثلاثة عشر قرنا.

وما أوتي هؤلاء إلا من عدائهم وحقدهم على الشريعة؛ ومن جهلهم بنظام الإسلام في مقاربة ومحاربة الجريمة؛ هذا النظام الرباني الذي يتشدد في وسائل الإثبات ويدرأ الحدود بالشبهات ويضع الحد على المضطر وصاحب الحاجة.. إلى درجة أن الحد لا يكاد يطبق إلا في حالات معدودة تكون كافية لردع المنحرفين وفعالة في الحد من الجريمة، بخلاف نظام العقوبات المدنية.

فـ(القوانين الوضعية واضعها البشر، والبشر مهما بلغوا من العلم فعلمهم قاصر، فهم إن علموا ما في أمسهم ويومهم فلن يعلموا ما في غدهم، وإن علموا بعض طبائع البشر فلن يعلموا كلها، وإن أحاطوا علما ببعض السيئات فلن يحيطوا بها كلها..) كما قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه الحدود في الإسلام ومقارنتها بالقوانين الوضعية.

ويتغافل المحاربون للشريعة الإسلامية -من غير مبرر- عن مثالب النظام الغربي الذي يصرون على تطبيعه وإسبال الألقاب عليه ووصفه بخلاصة التجربة الإنسانية؛ فالقانون البريطاني -مثلا- ينص على أن “الاغتصاب أو الاعتداء على أعراض الآخرين، يعتبر جريمة عقوبتها الحبس مدى الحياة بفتاة دون 13 عاما والحبس لمدة سنتين بفتاة دون 16 سنة، ولا يعتبر جريمة إقامة علاقة جنسية غير مشروعة مع فتاة فوق 16 عاما”؛ فهل هناك عبث أكثر من هذا..

مع العلم أن عقوبة السجن المقترحة بديلا عن الحد الشرعي ليست أقل إيلاما للمجرم، وليست أحفظ منها لكرامة الإنسان؛ لأنها عقوبة تقع على حرية الإنسان وإرادته واختياره، وتميت فيه هذه المعنويات التي تعد أعز وأكرم ما منحه الله لابن آدم، إذ بها يتميز عن باقي المخلوقات، وكل مخلوق يقاس بما أعطي من المميزات عن غيره..

كما أن التشريعات الجنائية الإسلامية التي يناصبونها العداء أكثر رحمة ومراعاة لمصالح الناس والمجتمع؛ “فأيهما أقسى: قطع يد السارق، وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته، ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته؟! فضلا عن أن وضعه في السجن تنفيذا للعقوبة السالبة للحرية طوال المدة المحكوم بها محروما من حريته بعيدا عن أهله وذويه؛ يكون كالحيوان الذي يوضع في قفص أو كالميت في قبره”. (التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة ص:665).

ويكفي للتدليل على ذلك قول الحق جل في علاه (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:179. قال الشيخ وهبة الزحيلي: حكمة القصاص: أنه يساعد على توفير الحياة الهانئة المستقرة للجماعة، ويزجر القاتل وأمثاله ويقمع العدوان، ويخفف من ارتكاب جريمة القتل، إذ من علم أنّه إذا قتل غيره قتل به، امتنع عن القتل، فحافظ على الحياتين :حياة القاتل والمقتول. اهـ. هذا بالإضافة إلى أن القصاص كفارة للجاني وتطهير له من إثم المعصية وشؤمها.

وهذه ليست دعوة إلى تطبيق الحدود؛ بقدر ما هي دعوة إلى الرجوع إلى أصلَي التشريع والحكم وهما القرآن والسنة؛ فتطبيق الحدود وحده لن يحل المشكلة إذا بقيت المجالات الأخرى معطلة فيها أحكام الشريعة، لأن الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ يجب الدخول فيه كافة؛ ولا يقبل تطبيقه في الجنايات والحدود وتغييبه وتعطيله في الاقتصاد والسياسة والاجتماع..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *