عبقرية البخاري وأزمة وعي الحداثيين عبد الصمد إيشن

التطاول على الإمام البخاري وعلى صحيحه، رياضة جديدة انضافت إلى رياضات سابقة أوصلت ممارسيها إلى الطريق المسدود، تطرح سؤال “العلم”، فيما يتعلق بالتراتبية التي ينبغي احترامها عند ممارسة النقد أو التعليق أو المراجعة. فالمنطقي أن يكون الناقد أو المعارض -مساويا على الأقل- في المرتبة العلمية لمن ينتقده أو يعارضه. فكما أنه لا يعقل أن يطعن طالب في كلية الطب في عمل استاذ مبرز حاصل على جائزة نوبل، لا يمكن لمن هب ودب من عابري السبيل التعليق على البخاري.

ولكن بداية لابد من التنبيه إلى أن الإمام البخاري لم يروي أيّ حديث في صحيحه، وإنما خرَّج الأحاديث وحققها ودققها متناً وسنداً، وكتابه “صحيح البخاري” هو عملية نقدية للرواية الإسلامية، كما أن موطأ الإمام مالك هو عملية نقدية، سعى فيها لتجاوز ما أخل به سلفه، واجتنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود؛ فالمدرسة الحديثية التي أعلنها عمر ابن عبد العزيز، لم تكتفي بالجمع فقط، وإنما دققت وحققت ما أخذته عن جيل الصحابة والتابعين.

والعلماء -رحمهم الله- عندما اتفقوا على أن “صحيح البخاري” هو أصح كتاب بعد كتاب الله، لم يقصدوا ما في البخاري من حيث “الدراية” وإنما قصدوا منهج الإمام البخاري في التحقيق والتدقيق والضبط في التحمل والأداء، حيث يُعتبر منهجه هو أقوى وأدق مناهج علم الحديث في تاريخ المدرسة الحديثية؛ لذلك محاولة إسقاط “صحيح البخاري” يكون بإسقاط منهجه، وليس بمجرد نقد بعض الروايات فيه. وهذا ما يتحدى به “صحيح البخاري” جميع منتقديه على مر التاريخ، فالمنهج الذي تأسس عليه طيلة 16 سنة، جعله يصمد في وجه كل منتقديه سواء من المحدِّثين والمستشرقين وغيرهم[1].

كما يُعتبر هو الأصح كذلك من حيث طريقة نقله عبر الأجيال، “فصحيح البخاري” لم يُنقل إلينا عن طريق الوجادة (إيجاد نسخة في المكتبة ونقلها)، وإنما نُقل إلينا إما قراءة من الشيخ أو سماعاً منه، وتواتر نقل “صحيح البخاري” عبر سلسلات تاريخية، نقلاً في السطور وحفظاً في الصدور، وروايةً بالسّند، وتدقيقاً في المتن، ونقداً، ودراسةً، وتحقيقاً، وشرحاً، واستدراكاً؛ فكل عصر كان له دور في حفظه إلى أن وصل إلينا. فكما تواتر نقل “القرآن الكريم” شفاهة وحفظاً في الصدور والسطور، كذلك تواتر “صحيح البخاري”، لهذا نقول أن الكتاب هو أصح الكتب بعد القرآن الكريم من حيث منهج نقله وتواتره وحفظه من الخلط والدَّس والافتراء.[2]

وعليه، فالحركة النقدية أمر ضروري لتطور العلم واستمرار الدين، شرط أن يكون هذا النقد واعياً بالتاريخ وخصوصيات العلوم ومناهجها؛ فكل نقد لـ “صحيح البخاري” إذا أُطر خارج المنهج، وخارج الصنعة الحديثية، سيكون مجرد كلام تسود به الأوراق -لتباع للناس بثمن باهض-.

فالعلوم الشرعية تخصص دقيق، تميزت به الأمة الإسلامية، والمستشرقين أنفسهم عجزوا عن مجاراة علماء الإسلام في هذا المجال، بل وأُعجبوا من دقة هذه العلوم، ومنهم المستشرق الألماني تيودور نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن). والذين يطعنون في صحيح البخاري وفي شخص مصنفه، لا يحترمون منهجية علوم الحديث، ولا يزنون المرويات بميزان علمي دقيق، وضع السابقون ضوابطه بما لا مجال للتشكيك فيه، بل إن كتب الحديث بمختلف مراتبها خضعت للتمحيص والتدقيق الشديدين.

من خلال كل ما سبق ذكره نستنتج أنه شتان بين النقاش العلمي الدقيق والمنهجي وبين تنظيم حملات منظمة لشن الحرب على قدسية النصوص وعلى الثوابت الدينية للأمة وعلى الأمن الروحي للمغاربة.

كذلك لا يفهم الحداثيون في حملاتهم هذه أنهم لا ينقصون من مكانة الإمام البخاري في قلوب المسلمين شيئا إنما يضربون سمعتهم بأيديهم فلا هم بقوا في الحداثة ولا هم تجردوا وجالسوا العلماء للدراسة على أيديهم وتفقهوا في دينهم.

للأسف تتجدد النقاشات لكن المعضلة واحدة، معضلة ذوي العقول المحدودة الذين لا يهمهم إلا أن يصدروا أحكام قيمة لا أن يبنوا نقاشا علميا هادئا منطلقه احترام التخصصات وإدراك عواقب المآلات في كل نقاش، سياسيا وفكريا وثقافيا.

[1]  مولاي التهامي بهطاط، المتهافتون على البخاري مقال منشور بتاريخ 6 يوليوز 2015

[2]  راجع نفس المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *