بسقوط الخلافة الإسلامية وتمزيق الشعوب الإسلامية إلى قوميات: طورانية عربية كردية بربرية..، فقدت القضية الفلسطينية بعدها الإسلامي فعادت مرة أخرى كما كانت في سالف عهدها قبل الإسلام: طريقاً إلى منافع مادية، أي خرجت من إطار المبادئ إلى إطار المصالح، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها، ولا مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر، بل لا مانع من التنازل عن بعضها أو استبدال غيرها بها.
لم يخف اليهود غبطتهم لانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد (مضطهد إسرائيل) على حد تعبير بعض الصحف اليهودية التركية، وقد جنوا سريعاً ثمرات خروج فلسطين من تحت المظلة الإسلامية ودخولها نفق العلمانية المظلم، فكان من الثمرات البادية للجميع: ارتفاع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وارتفاع نسبة الأراضي التي استولوا عليها، فعقب الانقلاب المشار إليه نقل الاتحاديون الموظفين الأتراك المعارضين للهجرة اليهودية من فلسطين إلى أماكن أخرى، ونظرت جمعية الاتحاد والترقي بعطف أكثر إلى الصهيونيين كمصدر للحصول على العون المالي للخزانة التركية المفلسة، وعليه وعلى الرغم من الاعتراضات العربية الشديدة: خففت القيود المفروضة على الهجرة وشراء الأراضي في وجه اليهود في العام 1913م، فأصدر الاتحاديون بعد نجاح انقلابهم تشريعاً يقضي ببيع جميع الأراضي السلطانية في الدولة بما فيها فلسطين بالمزاد العلني، ولولا فضل الله أولا ثم يقظة عرب فلسطين، واندلاع الحرب العالمية الأولى، لضاعت فلسطين كلها منذ ذلك التاريخ (انظر صحوة الرجل المريض).
وهكذا ارتفعت نسبة اليهود في فلسطين إلى 9.7% في سنة 1914م، لتستمر في الارتفاع في ظل النظم والمنظمات العلمانية لتصل مقارنة بعرب فلسطين إلى 35.1% قبيل سنة 1948م، وفي حين أن مجموع ما كان يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5%، ارتفعت هذه النسبة لتصبح 7% قبيل سنة 1948م، وبينما كان مجموع عدد المستوطنات على عهد السلطان عبد الحميد عام 1907م لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين كلها، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914م، ثم 71 مستوطنة عام 1922م، وفي عام 1944م قفز العدد إلى 259 مستوطنة، ليصل إلى 277 مستوطنة قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948م (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 7/64-94، 2/110) .
ولا شك أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية ودولية متعددة ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع إغفال أخطاء النظم والمنظمات العلمانية العربية التي ساهمت في هذه النتيجة، وعندما نقول أخطاء فإننا نصف محصلة الأفعال، أما أسباب هذه المحصلة فإنها تبدأ بتغلغل اليهود في شؤون الدولة العثمانية بمساندة العلمانيين وفشو الخيانة والتآمر والعمالة، ولا نستثني الجهل والسذاجة وانعدام الوعي.
ومن هذه الأخطاء: ما ظهر مبكراً من ضعف الوعي السياسي لأهمية قضية فلسطين لدى النخبة العربية على المستوى الرسمي رغم ظهور كل هذه المؤشرات على الخطر الصهيوني، ومن أمثلة ذلك الضعف: أنه “عندما عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م، وردت إلى المؤتمرين عشرات رسائل التأييد للمؤتمر والتنديد بالخطر الصهيوني، وقد دعا مرسلوها إلى اتخاذ موقف حازم من الهجرة اليهودية، ومن مجموع 387 رسالة وردت إلى المؤتمر كان من بينها 139 رسالة وردت من فلسطين، ومع ذلك: تجاهل المؤتمر الخطر الصهيوني؛ مما أثار حفيظة عرب فلسطين..”.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما ادعته بريطانيا عقب إعلان “وعد بلفور” سنة 1917م من أن مراسلات حسين/مكماهون سنة 1915-1916م قبل الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.. تضمنت موافقة الشريف حسين بن علي الضمنية على استثناء فلسطين من المنطقة المتفق على إقامة دولة عربية عليها.
السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين
أهم معالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين تتلخص في الآتي:
1- إخراج الإسلام من دائرة الصراع.
2- إيجاد قواعد أرضية للانطلاق منها في إيجاد واقع الكيان على أرض الواقع، ثم الانطلاق من هذه القواعد نحو التوسع والتغلغل.
3- هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين (ملء المجال الحيوي).
4 – تهجير عرب فلسطين خارجها (تفريغ المجال الحيوي)، عن طريق:
أ- طردهم من أراضيهم بالقوة المسلحة.
ب- إرهابهم بالمذابح والحرب النفسية والدعائية.
ج- تضييق منافذ العمل في وجوه العرب داخل فلسطين، مع تهيئة مواطن بديلة لاستقبالهم، والعمل على فتح مجالات العمل والاستقرار أمامهم في هذه المواطن.
5- تفتيت التكتل المعادي (الإسلامي/العربي) بتعدد محاور تجمعه، وإثارة نزاعات داخلية بينه، وإقامة دويلات طائفية مسالمة حول الكيان الصهيوني.
وفي المدى البعيد:
6- العمل على ربط المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة بالمصالح الصهيونية.
7- إقامة دولة عصرية يمكنها الاعتماد على نفسها فيما بعد.
8- الاستقرار والأمن، بالانتقال إلى السلام والشراكة مع الدول المحيطة عن طريق المعاهدات والأحلاف خاصة مع دول الجوار.
9- غزو دول المنطقة بالتغلغل السلمي، وقيادتها نحو منظومة إقليمية جديدة.