الاستئصاليون.. لماذا كل هذا العداء؟!

لا حديث اليوم في الساحة الوطنية إلا على انتصار حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة؛ وتشكيل الحكومة والتحالفات المرتقبة؛ ولئن كان معظم المغاربة -خاصة الذين صوتوا منهم على حزب العدالة والتنمية الفائز بالأغلبية في البرلمان- يعقدون آمالا كبيرة على حكومة بنكيران؛ وينتظرون من الحزب -رغم الإكراهات والعراقيل الكثيرة التي تعترض طريقه- أن يحقق وعوده الانتخابية على أرض الواقع؛ رغم كل ذلك إلا أن هناك فئة أخرى ساءها كثيرا وصول حزب ذو مرجعية إسلامية إلى السلطة؛ واعتبرت أن: “اختيار الشعب لهذا الحزب الأصولي الذي لا يخفي عداءه للحداثة والحداثيين طريقا للعودة بالمجتمع نحو الانغلاق، وربما التراجع عن المكتسبات التي تحققت خلال السنوات الأخيرة في مجال الحريات والحقوق الفردية والجماعية”. (محمد البريني؛ جريدة الأحداث 28/11/2011).
فانتصار الإسلاميين في كل من تونس وليبيا ومصر والمغرب؛ ومنح الشعوب العربية الثقة الكاملة للمدافعين عن عودة تحكيم الشريعة الإسلامية في الحياة العامة؛ أصاب العلمانيين بالجنون؛ وأزال عنهم مساحيق التقية والنفاق التي لطالما اختفوا وراءها لتمرير مشاريعهم وتطبيع سلوكيات العلمانية المنحرفة والشاذة في المجتمع.
وقد صدمت كثيرا وزيرة فرنسا للشباب جانيت بوغراب بتصويت 30 بالمائة من التونسيين الذين يعيشون في فرنسا لحزب النهضة والفضيلة التونسي، قائلة: “ما يثير صدمتي هو أن هؤلاء الذين يتمتعون بالحقوق والحريات هنا، منحوا أصواتهم لحزب ديني”.
وفي حوار أجرته الوزيرة وابنة أحد الحركيين -الجزائريين الذين ناصروا فرنسا خلال حرب الاستقلال الجزائرية- مع الصحيفة الفرنسية “لبوبارزيان” وصفت بوغراب فوز الإسلاميين في شمال إفريقيا بالطاعون والكوليرا!!
وتعبيرا عن قلقها استبعدت الوزيرة الفرنسية؛ بمناسبة الفوز الذي حققه الإسلاميون في شمال إفريقيا، أن يكون ثمة قدَرا ملعونا قد أصاب العالم العربي بوقوعه بين فكي كماشة ما أسمته التيار الإسلامي والديكتاتوريات!!
ونفت وزيرة الشباب في حكومة ساركوزي -التي تفتخر بعدم صيامها شهر رمضان؛ و محاربتها ارتداء النقاب في فرنسا- وجود إسلام معتدل، وأن أي تشريع يستند إلى الشريعة الإسلامية سيفرض لا محالة قيودا على الحقوق والحريات.
ولئن كان حزب العدالة التنمية في المغرب يختلف عن ثوار ليبيا وإخوان وسلفيي مصر؛ من حيث عدم رفعه مطلب تحكيم الشريعة الإسلامية واكتفائه برفع شعارات: محاربة الفساد والمفسدين؛ والشفافية والنزاهة و”المعقول”؛ إلا أنه لم يسلم من التطرف العلماني و”ماكينة” قمعه واستبداده.
فلا زال الاستأصاليون العلمانيون في المغرب يحكمهم المنطق الفرعوني؛ ويمارسون على كل من خالف المرجعية العلمانية وتبنى المرجعية الإسلامية القمع والاضطهاد؛ ولا زالت أصواتهم ترتفع مكررة قول سلفهم: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.
ففي مقال بعنوان “الإسلام ينبغي أن يبقى في المساجد”، نشرته صحيفة لوموند الفرنسية أكد الفرنكوفوني العلماني الطاهر بنجلون عضو أكاديمية غونكور(*) الفرنسية قول جانيت بوغراب؛ ونفى وجود إسلاميين معتدلين؛ واصفا هذه العبارة بالفارغة من المعنى والملئية بالمغالطات. واعتبر بنجلون أن كل الإسلاميين في الدنيا متطرفون ولو كان خطابهم مطمئنا..
أما محمد الطوزي؛ عضو اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور؛ فاعتبر أنه “مؤلم جدا على المستوى العاطفي أن يقبل الملك بتقاسم الحكم مع الإسلاميين، فالكل يعرف أنه يكرههم”.
ودعى الطوزي حركة 20 فبراير إلى أن تستوعب أن الصراع الأكبر في المغرب هو صراع بين الحداثيين والإسلاميين.. وخلاصة الحديث هو أن الصراع هو صراع قيم، حول ممارسة الحريات اليومية.
فمن خلال هذه التصريحات يتضح لنا بجلاء أن النظرة العلمانية المشبعة بالفكر الاستئصالي لكل ما هو شرعي أو مستمد من الشريعة الإسلامية، ما تزال حاضرة بقوة في الخطاب العلماني ولدى كثير من الساسة مع الأسف الشديد؛ فهذا الاستغراب المتحكم في عقلية النخبة والموجه لطريقة تفكيرهم؛ يجعلهم يعيشون خارج مجتمعهم؛ وبعيدا عن إرادات الشعوب والمرجعية التي ينتمون إليها.
فلا يمكن لهذا الوضع المشوه أن ينصلح: ما لم يناقش هذا الموضوع بهدوء وعقل؛ ويفسح المجال أمام الجميع ليدلي بدلوه، خاصة العلماء والمصلحين؛ ليوصلوا خطابهم وكلمتهم بكل حرية إلى عموم الناس؛ وما لم يتحل العلمانيون الذين أصيبوا بداء “الخضوع لكل ما هو الغربي” بإرادة صادقة للقطيعة الثقافية والعقدية مع أفكار وعقائد فلاسفة الغرب؛ القائمة على فصل الدين عن السياسة؛ والكفر بالمطلقات والغيب؛ والتي لا ترى في الملتزمين بدين الله عموما إلا تكريسا للرجعية والماضوية والتخلف والبدونة.
فإذا تم ذلك وتخلو العلمانيون عن كبرهم وعنجهيتهم؛ وقدموا عقولهم على أهوائهم؛ ومرجعيتهم على مرجعية غيرهم؛ ونظروا في تطلعات الناس ومتطلباتهم الحقيقة وهمومهم اليومية وحاجاتهم الروحية؛ فحينها سنكون فعلا قد وقفنا على بداية طريق الإصلاح، وسيكون المستفيد الحقيقي هم المغاربة أنفسهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) (جائزة غونكور (بالفرنسية Le prix Goncourt‏ : هي جائزة معنية بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية تمنحها أكاديمية غونكور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *