القضية المقاصدية كما يتداولها الخطاب العلماني العربي

كلمات حق يراد بها باطل:
يتداول العلمانيون في خطابهم مفاهيم متعددة مثل: المقاصد 1 والمصالح2 والمغزى والجوهر والروح 3 والضمير الحديث 4 والضمير الإسلامي 7والوجدان الحديث 5 والمنهج 6 والرحمة .
وهي كلمات حق يراد بها باطل لأن بينها مفاهيم إسلامية يراد بها استئناس الضمير الإسلامي، مثلها مثل الكلمات التبجيلية التي يتداولها العلمانيون أثناء الحديث عن القرآن الكريم تمهيداً لإقصائه عن الحياة والتشريع وذلك كقولهم:
8″القرآن كتاب هداية وبشرى، يقول كل شيء ولا يقول شيئاً” .
9القرآن كتاب هداية وإقحامه في كل أمورنا الحياتية ليست من تخصصه إنه ليس كتاباً في الطب والفيزياء .
10″القرآن كتاب هداية وبشرى ورحمة، وليس كتاب قانون تعليمي” .
وعلى هذا السبيل تُستخدم المقاصد والمصالح والتأويل وعلوم القرآن كما سنرى.

إبراز الشاطبي وتصفية الشافعي:
لقد أخذ الجابري على الأصوليين اهتمامهم الشديد بالمباحث اللغوية والمسائل النحوية، واعتبرهم غفلوا عن المقاصد الشرعية، وصنع من ذلك إشكالية جعلها محور دراسته وهي إشكالية اللفظ والمعنى، فقال:
“إن أول ما يلفت الانتباه في الدراسات والأبحاث البيانية سواء في اللغة أو النحو أو الفقه أو الكلام أو البلاغة أو النقد الأدبي هو ميلها العام الواضح إلى النظر إلى اللفظ والمعنى ككيانين منفصلين، أو على الأقل كطرفين يتمتع كل منهما بنسبة واسعة من الاستقلال عن الآخر” (الجابري؛ بنية العقل ص:37).
وحَكَم الجابري على علم الأصول منذ الشافعي إلى الغزالي بأنه كان يطلب المعاني من الألفاظ “فجعلوا من الاجتهاد اجتهاداً في اللغة التي نزل بها القرآن، فكانت النتيجة أن شغلتهم المسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية، فعمقوا في العقل البياني وفي النظام المعرفي الذي يؤسسه خاصيتين لازمتاه منذ البداية: الأولى هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني، ومن هنا أهمية اللفظ ووزنه في التفكير البياني، والثانية هي الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات -الاهتمام باللفظ وأصنافه الخ- على حساب مقاصد الشريعة”.. “وهو ما سبب مشاكل من التأويلات المتعارضة والمتناقضة التي وظفت حسب المذاهب المختلفة” (بنية العقل ص:58-562).
والبديل لديه هو مقاصد الشريعة كما مهد لها ابن حزم ثم ابن رشد ثم ابن خلدون ثم الشاطبي الذي دشن نقلة إبيستمولوجية “معرفية” في علم المقاصد.(بنية العقل ص: 539-547).
وهـكذا حظي الشاطبي بكثير من الإطـراء والثناء على حساب الشافعي وغيره من الأصوليين، واعتُبر مؤسس علم المقاصد وقواعده الكلية 11، واعتبرت نظريته في المقاصد “جديدة كل الجدة”، وقيل بأن الجديد فيها أنها تجعل المقاصد حاكمة على الوسائل12 ، وأن العبرة -على ذلك- ليست بخصوص 14السبب ولا بعموم اللفظ وإنما بالمقاصد ، بل وصل الأمر إلى حد القول بان مقاصد الشريعة الشاطبية تقدم المصلحة على النص
كانت هذه الإشادة بالشاطبي تتوازى مع نقدٍ شديد للإمام الشافعي الذي وُصِم بأنه مكرس “الإيديولوجية العربية”! 15 “إن الشافعي وهو يؤسس عروبة الكتاب.. كان يفعل ذلك من منظور أيديولوجي ضمني في سياق الصراع الشعوبي الفكري والثقافي.. لقد انحاز إلى العروبة فقط بل إلى القرشية 16تحديداً” .
ولأن الشافعي رفض الاستحسان اعتُبر بأنه كان يناضل “للقضاء على التعددية الفكرية والفقهية وهو نضال لا يخلو من مغزى اجتماعي فكري سياسي واضح” 17، فكان منظّر المنهجية التقليدية بقوله: “جهة العلم الخبر” 18. وكان يستخدم طريقة ملتوية في فهم الآية 19وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)
وكان هو”المشرع الأكبر للعقل العربي”20 ، لأنه جعل “النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي وفاعلياته، وواضح أن عقلاً في مثل هذه الحالة لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر”21 .
ولذلك فمن غير المقبول اليوم أن نتمسك بمنهج الشافعي الأصولي، إذ فهم الكتاب والسنة على نحو فهم الشافعي وتأويله لا يؤديان إلا إلى مأزق منهجي لا عهد للأسلاف به22 .
هذه بعض النماذج لمـوقف الخطاب العلماني من الإمام الشافعي وهناك نماذج أخرى 23.

—————————————-
( 1) انظر: محمد عابد الجابري في مواطن كثيرة من كتابه: بنية العقل العربي (ص:61 – 64..) ومحمد الطالبي:أمة الوسط ص:137، وعبد المجيد الشرفي:الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص:80-66 ومحمد أركون:تاريخية الفكر ص:170 وحسن حنفي:حوار المشرق والمغرب، ص:36 . والمراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها. انظر: د.أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الشاطبي ص:6.
(2) انظر: حسن حنفي:حوار المشرق والمغرب، ص:195، ونوال السعداوي:المرأة والدين والأخلاق ص:52 وانظر : نصر حامد أبو زيد:الخطاب والتأويل ص:207.
(3 ) انظر: الشرفي الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص:61 ، 8 وطيب تيزيني:الإسلام والعصر، ص:24.
( 4) انظر: المنصف بن عبد الجليل:في قراءة النص الديني، ص:39 .
(5) انظر: عبد المجيد الشرفي:الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص:72-73.
(6) انظر: العشماوي: أصول الشريعة، ص:178.
(7) انظر: العشماوي: أصول الشريعة، ص:180.
(8) انظر: طيب تيزيني:الإسلام والعصر، ص:105-148 .
(9) انظر: أنور خلوف:القرآن بين التفسير والتأويل والمنطق العقلي، ص:34 .
(10) طيب تيزيني:النص القرآني، ص:184.
(11) انظر: نصر حامد، الخطاب والتأويل؛ ص:201 .
(12) انظر: محمد جمال باروت؛ الاجتهاد النص الواقع المصلحة؛ ص:112 .
(13) انظر: الشرفي الإسلام بين الرسالة والتاريخ؛ ص:80 .
(14) انظر: آسيا المخلبي؛ مبحث التأويل في الفكر العربي المعاصر نصر حامد نموذجاً؛ ص:54 .
(15) عنوان كتاب نصر حامد أبو زيد: الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية.
(16) أبو زيد: الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية ص:26-27 وانظر: د.عمارة: التفسير الماركسي للإسلام ص:91.
(17) السابق ص 101 وانظر: د . عمارة ” التفسير الماركسي ” ص 92 .
(18) انظر الصادق بلعيد: القرآن والتشريع ص:11 .
(19) نفسه: ص276 .
(20) الجابري: بنية العقل، ص:22 وله: تكوين العقل، ص:106 .
(21) الجابري: تكوين العقل العربي، ص: 105 .
(22) انظر: عبد المجيد الشرفي؛ لبنات ص: 143 .
(23) انظر: محمد شحرور: نحو اصول جديدة، ص:111 وعبد الهادي عبد الرحمن: سلطة النص، ص:184-185

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *