لما كان التاريخ مرآة الأمم يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله مستقبلها، كان من الأهمية بمكان الاهتمام به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم. فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها، إذ به قوام الأمم، تحيى بوجوده وتموت بانعدامه.
قال ابن خلدون رحمه الله تعالى: “اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا ” (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر..).
وقال السخاوي رحمه الله تعالى: “والحاصل أنه -أي التاريخ- فن يبحث عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم”.
فدراسة التاريخ عند المسلمين ليست للتسلية وإضاعة الوقت وملء الفراغ، أو لمجرد المعرفة وحفظ الحكايات -خاصة تاريخ الأمة الإسلامية- على مر العصور وكر الدهور؛ وإلاّ لما ذكر الله سبحانه تاريخ السابقين وقصص النبيين، بل قال علماؤنا الأفذاذ أن القرآن الكريم مداره على ثلاثة أغراض، أولها: تقرير العقيدة في الله عز وجل، والثاني: الأحكام والشرائع، والأخير: عرض أخبار السابقين.
ولذلك صنَّفَ العلماءُ التاريخَ ضمن العلوم التي تخدم الشريعة الإسلامية، إذ أن َصِلَته بعلم الحديث لا تخفى ولذلك قيل: “لم يُستعَن على الكذابين بمثل التاريخ”، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: “لما استعمل الرواةُ الكذبَ استعملنا لهم التاريخ”، فصارت منزلة التاريخ منزلة عظيمة، يقول ابن الأثير: “ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً علم أن فوائدها -أي فوائد دراسة التاريخ- كثيرة ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة”، والله تبارك وتعالى استعمل التاريخ في الرد على أهل الكتاب، قال تعالى: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” آل عمران 65.
وهناك أمر آخر وهو أن علم التاريخ ليس حشداً للحوادث والمرويات وترديداً لها فحسب -بالرغم من أهمية ذلك وكونه اللبنة الأولى لهذا العلم- ولكن يتبعه أمر آخر جد خطير ألا وهو تعليل هذه الحوادث وإيجاد الخيط الرفيع الذي يربط بين هذه الأحداث على امتداد الزمان لاستخراج مُعينات على فهم مجرى التاريخ والحوادث المؤثرة فيه، فالتاريخ أصلاً موضوعه الإنسان والزمان كما قال السخاوي في الإعلان بالتوبيخ: “أما موضوعه فالإنسان والزمان”، فوحدة التصرف البشري نلمحها في تصرفات الإنسان على امتداد الدهر كما يخبرنا القرآن “كََذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ” البقرة، وأيضاً قوله جل وعلا: “أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ” الذاريات، فقول الكافرين هو هو، وقول المؤمنين يكاد يتطابق، انظر إلى رد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الأصحاب رضوان الله عليهم أن يجعل لهم ذات أنواط، حيث قال: “الله أكبر، إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة”، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على كثير من المواقف بقوله: “إنما أهلك الذين من قبلكم”، أو “إنه كان من قبلكم” دلالة على أن هذا القول وهذا الفعل يشبه ذاك.
ولقد انتبه لهذه النقطة المؤرخ ابن خلدون في المقدمة بعد أن ذكر الجزئية الأولى وهي حشد الروايات والأحداث: “وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصل أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق” اهـ.
فانظر أيها القارئ الكريم كيف نبه علماء المسلمين إلى أهمية تعليل الحوادث قبل علماء الغرب بقرون، لا كما يتبجح العلمانيون اليوم.