يعتبر اللباس أحد أهم مظاهر ثقافة الشعوب، يعبرون من خلاله عن قيمهم وقناعاتهم الجمعية، إذ ثقافة اللباس هي جزء من هوية المجموعات البشرية، وتخضع للعرف المتواطئ عليه بين أفرادها تحمل دلالات أنثروبولوجية عميقة تمكن من تحليل نمط عيشها.
وبالرجوع إلى تاريخ كل دول العالم سواء النصرانية أو اليهودية أو الإسلامية، ندرك أنها كانت تتقاسم صفات مشتركة في أنواع ألبستها، فلم يكن الإنسان الزائر ليرى في شوارع باريس خلال أواسط القرن الثامن عشر نساءً متبرجات حاسرات رؤوسهن بله أن يراهن كاسيات عاريات لا يغطين من العورة المغلظة سوى القدر اليسير.
وهناك أشرطة على اليوتيوب وثقت لباس النساء اللندنيات في الشارع العام في سنة 1901، لا يمكن أن يُميِّزهن المُشاهد عن النساء المغربيات المحتجبات والمنتقبات.
أما في المغرب فقد رأينا أمهاتنا وجداتنا يلبسن النقاب والحجاب والحايك، ولعل جيلي هو آخر جيل شهد هذا النوع من اللباس، في المدن الكبرى مثل فاس والدار البيضاء وسلا وتطوان، رغم أن اللباس المماثل له في الحشمة والوقار لا يزال موجودا في بعض مدن الجنوب بكثرة، خصوصا المدن التي لم يتم غزوها من طرف الثقافة الرأسمالية المتوحشة، إذ لا تزال تعرف قيما جمعية مهيمنة على ثقافة اللباس، لكنها تسير نحو الانقراض مع جيل الفيس بوك والتيك توك.
أما مناسبة هذا المقال، هو انتشار نوع من اللباس بين بناتنا فاق كل التصورات، لباس يكشف كل الجسم ما عدا الثديين مع سروال يجسم عورة المرأة بشكل مثير للشهوة بما لا مزيد عنه.
إننا اليوم تجاوزنا العري الفاحش على الشواطئ والمسابح وصار التعري في أبشع صوره منتشرا في الشوارع والكليات والمدارس، وهو شيء لا يصدق!!
حول هذا تثور الأسئلة تباعا، وسنجيب عليها باقتضاب ما أمكن:
إلى أي حد سيصل العري الفاضح بين نسائنا وفتياتنا؟؟
الجواب، إلى الحد الذي وصله في أوروبا وأمريكا، فالمفاهيم التي تبيح العري الفاحش وتعتبره حرية، موجودة عندنا أيضا، وأما القوانين التي كانت تحمي العفة والحشمة فقد تم تجميدها في أفق شطبها وإلغائها، ومنها الفصل الذي يعاقب على الإخلال بالحياء والآداب في الأماكن العامة.
1- لماذا لا يناقش هذا الموضوع بين النخب الفكرية والعلمية؟؟
بطبيعة الحال لأنها تعيش تحت سلطان الثقافة الغالبة، والثقافة الغالبة اليوم في المغرب وجل البلاد الإسلامية هي الثقافة العلمانية التي لا تعتبر الحداثةَ إلا إذا ثارت على المقدس، ولا تعترف بالعقلانية إلا إذا كفرتْ بمنظومة الأخلاق المستمدة من مصدر “متافيزيقي”، حتى ولو كان الخالق سبحانه.
لذا، فنخبتنا يهمها جيدا أن تنعت بالحداثية والعقلانية، وتحرص على ألا تُدخِل الأخلاقَ في النقاشات العمومية الخاصة بالتشريع والتعليم والأدب والفن، لأنها ستنعت -إن فعلت- بالرجعية والظلامية ومعاداة الإبداع.
زد على ذلك استصنام المفهوم الليبرالي للحرية، الذي توسعت دائرته لتشمل الشذوذ والسحاق بله العري الفاحش في الواقع والفن والإعلام.
2- هل هذا التطور على مستوى اللباس وقع بشكل تلقائي أم أن هناك مَن دَفع ولا يزال يدفع ثقافة اللباس المغربية لتتخلى عن قيم العفة والستر والحشمة؟؟
بطبيعة الحال كان هناك تاريخيا وثقافيا وفنيا أسبابٌ متعددة حفزت المجتمع المغرب حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، ولعل من أهم هذه الأسباب تأثيرا احتكاك المغربيات بالنساء الأجنبيات خصوصا نساءُ علية القوم الذين هم أسوة وباقي النساء.
ولنستمع لإحدى نساء المغرب المهتمات بشأن المغربيات وهي تحاور ثالث مقيم عام قبل الأخير بالمغرب “جلبير كرانفال” الذي نقل الحوار في مذكراته(*) قائلا:
“وفِي غضون اللقاء والاتصالات تلقيت زيارة خاصة، جاءت لتخفف عني قدرا من همومي، ولتؤكد لي في نفس الوقت صحة الملاحظات التي أوردتها أعلاه، وذلك أن الجنرال لوبلان اقترح علي استقبال شابة مغربية لطيفة، ويتعلق الأمر بالسيدة الطهاوي جليل التازي، التي تترأس بالفعل مختلف الأنشطة النسائية، فقبلت ذلك وانطلاقا من أني، وإن كنت لا أعول على ما يمكن أن تفيدني به هذه السيدة حول آراء النساء، فإن تأثيرها في هذه الظرفية الخاصة يستحق أن يلقى بعضا من اهتمامنا.
إنها سيدة بارزية الطبع كما يبدو عليها بشكل كبير، ولقد جاءت وهي ترتدي فستانا رائعا أبيض اللون، مما دفعني إلى المبادرة بالتعبير لها عن ثنائي لأناقتها، فما كان من سلوكي النرق هذا إلا أن سنح بربط خيوط الحديث معها، مما هيأ لها الفرصة للانطلاق، منذ البداية، في مرافعة عن حق الملك المخلوع. لقد ظلت حياتها دوما، كما جاء على لسانها، على الطريقة الأوربية، غير أن هذه الخاصية قد كلفتها التعرض لعدد لا يحصى من أوجه السخرية والتهكم، مما أصابها بالكدر والهم طيلة شبابها، بحيث إن ذلك لم يتوقف إلا بعد قيام السلطان الأسبق، هو نفسه، بالسماح لبناته، وخصوصا الأميرة عائشة بأن يرتدين ملابسهن على الطريقة الغربية، ومنذ ذلك الوقت، أصبح هذا الأسلوب الثوري في اللباس مقبولا لدى الناس. وهكذا، كما هو ظاهر، فالعاهل المنفي يبقى معتدًا به في أعين الإناث من رعاياه، أولئك اللواتي يعتبرنه بمثابة المحرر والمنقذ. ثم إن السيدة التازي أضافت، زيادة على ذلك، بأن النساء في المغرب، يضعن في شخصي أنا الثقة الكبرى”.
ومن خلال هذا النقل التاريخي يتبين لنا أن “تحرير” المرأة من الحجاب الشرعي في المغرب حدث تحت نظر ومتابعة “المستعمر” الفرنسي، وأن هذا “التحرر” حفزه سفور نساء من علية القوم، ونشرت ذلك وسائل الإعلام وصاحبه جدل بين الخاصة والعامة، ومن ثم وقع التطبيع التدريجي مع العري، ثم تبعته على نفس الخط وسائل الإعلام الرسمية بعد “الاستقلال” ، فمنذ وعيت في بدايات السبعينيات كانت التلفزة المغربية تبدأ مع السادسة والربع مساء، وتقطع الإرسال على الساعة الحادية عشر والربع ليلا، أي خمس ساعات فقط لكنها تبث فيها أفلاما غاية في التأثير ومنها فيلم طرازان العجائبي بجسمه العاري رفقة شريكته العارية أيضا، فكيف لا يؤثر هذا العري على الأجيال والأسرةُ بأكملها تشاهده.
أما بالنسبة للتعليم فقد نُزع الحياء من الفتيات وحطمت في أنفسهن الحساسية من العري من خلال مادة التربية البدنية التي كانت تفرض على بنات المغرب أن يلبسن سراويل لا تغطي سوى جزء قليل من الفخذ.
أضف إلى ذلك الإعلانات التجارية والموضة والمجلات، ثم جاء هذا الانفتاح الشامل واللامضبوط، على الرياضة حتى أصبحت العداءات المغربيات ولاعبات كرة الطائرة والتنس وجمباز يخضن المباريات والمنافسات بلباس البحر، ويعانقن الرجال الأجانب عند الفوز.
وبعد هذه الأسئلة أختم تساؤلاتي بالاستفهام التالي:
3- هل يُقبل من الدولة أن تتدخل في نوع اللباس الذي يختاره المواطنون؟؟
عندما كنت شابا في بدايات الثمانينيات كان الشرطي يوقفك في باب المحكمة إن كنت ترتدي سروالا قصيرا تحت الركبة، ويمنعك من ولوجها، وكذلك الشأن في المدرسة وفي كثير من المرافق العامة، اليوم تغير كل شيء لم يعد للقيم الإسلامية ولا للآداب والأخلاق العامة سلطة اعتبارية.
فلماذا اختفى تدخل الدولة نهائيا في قضية اللباس؟؟
لعل أهم سبب من أسباب استقالة الدولة من تدبير قضية اللباس هو خضوع الحكومات المتعاقبة والمؤسسات والنخبة العالمة والمثقفة القائمة على الإدارات والمؤسسات الجامعية، للقيم الغربية المستوردة والمفاهيم الجديدة التي تشكلت بعد هيمنة العلمانية في أوربا على مراكز القرار، وإخضاع الكنيسة لسلطان البورجوازية التي نشأت في ظل ميلاد الرأسمالية الليبرالية التي ترفض كل القيود على الفرد سواء الدينية أو العرقية أو القانونية المحافظة، وأخطر تلك المفاهيم مفهوم الحرية الفردية، الذي تشكل في بيئة تعادي الدين والقيم والأخلاق، مفهوم يلغي كل اعتبار للمشترك، وللقيم الجمعية والآداب العامة.
فتسلط العلمانية على الخطاب العام يجعل العلماء في المساجد يتجنبون الحديث عن هذه الثورة العارية التي تؤجج الشهوات بين الشباب، والتي تزيد من ارتفاع ممارسة الزنا فترتفع بذلك حالات الحمل لتنقسم الضحايا من النساء والفتيات بين لاجئة إلى الإجهاض وملتحقة بمجتمع “الأمهات من زنا”، لنكون بهذا نصنع مجتمعا من “الأطفال نتاج الزنا”، مقطوعَ الصلة بقيمه ودينه وثقافته، تنهشه عُقدٌ وأمراض نفسية تجعل من أفراده قنابل تنفجر في شوارع المملكة، فهؤلاء ضحايا الانحلال الخلقي والشهوات العابرة، أغلبهم مشاريع مجرمين سيصبحون “أبطالا” لجرائم الاغتصاب والسرقات والسطو المسلح (الكريساج)، ومن أفلت منهم مِن مستنقع الرذائل والجرائم، سهل عليه أن ينضم إلى طوابير المفسدين، نظرا لأنه لم يتلق القيم في أسرة مستقرة، ولم يتعلم الأخلاق الإسلامية.
إن للتهتك في اللباس والعري الفاضح المثير للغرائز نتائج وعلاقات مباشرة مع الزنا والحمل من سفاح والإجهاض وكثير من المعضلات التي تعيشها المرأة والرجل على السواء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
——————
(*) من مذكرات المقيم العام جلبير گرانفال، أسرار مهمتي بالمغرب، ترجمة محمد بن الشيخ تقديم د عبد الهادي بوطالب منشورات الزمن سلسلة ضفاف ص 198-190.