كلما أراد العلمانيون أن يردوا حكما شرعيا يجعل الدين يتجاوز حدود المسجد والحياة الشخصية للإنسان؛ لجؤوا إلى أساليب نفاقية؛ منها: تأويل النصوص التي ينبني عليها ذلك الحكم.
وحقيقة هذا التأويل الذي يسمونه -أحيانا- اجتهادا؛ تلاعبٌ يلفون به ما يعتقدون من أن ظواهر تلك النصوص لا تتماشى مع مقتضيات التطور والتقدم، بل إنها عائق في طريق العصرنة وحياة الرقي والمتعة.
حقيقة تأويل العلمانيين للنصوص
ففعلهم لا يمت للتأويل المعتبر شرعا بأي صلة، بل هو من قبيل تحريف النصوص والتلاعب بها؛ وبيان ذلك أن التأويل في اصطلاح أهل العلم يراد به صرف اللفظ عن ظاهره لدليل صحيح من كتاب أو سنة، أما صرفه عن ظاهره لا لدليل، فهذا لا يسمى تأويلا، وإنما يقول له الأصوليون: لعبا، لأنه تلاعب بنصوص القرآن والسنة.
وكيف لا يكون هذا تلاعبا وقد تكلم في حكم شرعي من ليس أهلا لذلك، وإذا جوزنا كلام الصحفيين والعلمانيين في إثبات حكم شرعي أو نفيه، فلنجوز إذاً مثل هذه الفوضى في مجالات أخرى؛ كالطب والمعمار والسياسة..، ولنبح للجاهلين بأمورها أن يتكلموا فيها بأذواقهم وآراءهم، وأن يعملوا بمقتضى ذلك!
وهل يستقيم عقلا وشرعا أن نحرص على احترام التخصصات في أمور دنيانا، ونخل بهذا الواجب في أمور ديننا؟!
التشابه بين تأويل العلمانيين وتلاعب الباطنية
إن هذا النوع من التأويل هو نفسه الذي فعله بالدين قديما الباطنية الزنادقة، وسلكته الجهمية في باب المعتقد، وفِرَق الباطنيةِ المتنوعة في الشريعة والأحكام، وعن مذهبهم تفرع قول الصوفية بتقسيم الشريعة إلى ظاهر وباطن، وقد أولوا كثيرا من النصوص على ما يريدون، زعما بأن ذلك هو باطن الشريعة وحقيقتها التي لا يعلمها إلا الخواص، أما الفقهاء والعلماء فلا يتجاوز علمهم ظواهر قاصرة!
قال المؤرخ المغربي أحمد الناصري: “وقالوا بإسقاط التكاليف الشرعية، وزعموا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وأنهما متغايران، والظاهر منها للعامة، والباطن للخاصة” (تعظيم المنة).
ومن أمثلة هذا التلاعب؛ تفسير بعضهم الصلاة بسر الطائفة والمحافظة عليها بحفظ السر، وفسروا الزكاة بحق الإمام، وجوزوا نكاح الأب ابنته، والأخ أخته …، إلى غير ذلك من التلاعبات التي قاموا بها باسم التأويل.
ومن هذا المنطلق فسر بعض العلمانيين الحجاب بالمحافظة على الشرف والاحتشام، وأنه لا يعني تحديد لباس معين (كما أشار إلى ذلك بوهندي)، ومن ذلك المنطلق أيضا تأول آخرون منهم حكم الحجاب بأنه تشريع وقتي اقتضته بيئة معينة!
ورموا المنكرين عليهم من الفقهاء والدعاة بالرجعية والتزمت، والجهل بمقتضيات التطور ومستلزمات التحديث والعصرنة، ومن ذلك: القراءة العصرانية للنص، والتأويل الذي يجعله يعاصر نفسه!
بين التصوف والعلمانية
ولعل الوقوف على هذا النوع من التشابه بين الصوفية والعلمانية يفسر لنا تأييد الثانية للأولى، ويعلل ما تتبناه القناة الثانية وصحيفة الأحداث ونحوهما من نصرة التدين الصوفي وإبرازه والترويج له، وذلك لأنه يقصر تدخل الدين في حياة الإنسان على طقوس معينة وممارسات ضيقة المجال من جهة، ولأنه يؤول الأحكام بعيدا عن ضوابط التأويل الصحيح من جهة أخرى.
وهذا كله سير -بقصد أو بغير قصد- على النهج الذي تريده الوصية أمريكا، وتراه الطريق المتعين سلوكه لكل من أراد أن يتدين بالإسلام.
وقد جاء في التقرير الأخير للمركز الأمريكي “راند” أن: “الصوفية هم حلفاء طبيعيون للغرب إلى الحد الذي يمكّن من إيجاد أرضية تفاهم مشتركة معهم”.
.. ولقد قادهم التأويل المذكور؛ إلى مزاعم من قبيل: (المهم هو الجوهر دون الشكل)، (اللباس أمر يخضع للبيئة والعقلية ولذلك فهو يختلف حسب التاريخ والبيئة)، (اللباس أمر شخصي لا دخل للدين فيه)، .. الخ.
ومن المهم أن نعرف أن هذه المقولة الأخيرة تمثل الغرض الأساسي من (التأويل) العلماني لحكم الحجاب، ولذلك أجدني مضطرا للوقوف معها الوقفة التالية:
اللباس والعلمانية
الأصل في اللباس الإباحة كسائر الأشياء، وقد تدخل فيه الدين وأحاطه بأحكام زائدة على الأصل، من منطلق قاعدة:” أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)”
قال المفسرون: “{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} أي: لها تعالى الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها، والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فإنه الموجد للكل والمتصرِّف فيه على الإطلاق، فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية”.
فعجبا للإنسان العلماني الذي يرفل فيما خلق له ربه من النعم، وفي الوقت نفسه يرفض أن يكون لله عليه السلطان والأمر!
.. إن الخالق جل وعلا يخلق ما يشاء ويأمر بما يشاء، ولا يُقبل شرعا، ولا يُستساغ عقلا أن يقال: إن الله لا دخل له في أمور؛ كلباس المرء مثلا، بل هذا من أعظم التطاول وأقبح التمرد.
ولقد ذهبَت -في هذا السياق- إحدى رئيسات الجمعيات النسوية العلمانية في بلدنا؛ إلى حد التصريح بتلك السوءة الفكرية، حين عبرت عن رفضها خضوعَ أحكام الأسرة للشريعة الربانية، ورددت ما دعت إليه نوال السعداوي قبلها من أنها تريد مدونة أحوال شخصية لا يكون لله فيها أي دخل!!!
الحجاب بين الإرادة والتطاول
وهكذا فإن حقيقة دعوة العلمانيين المحارِبة للحجاب؛ هي تمرد على شريعة الخالق جل وعلا ورفض لإرادته الشرعية، المتعلقة –هنا- بلباس المرأة أمام الأجانب، والذي ثبتت فيه أحكام كثيرة بينا جملة منها في هذا الملف وفي مناسبات أخرى.
فتلكم الأحكام الشريفة والآداب المنيفة؛ من الإرادة الإلاهية المبيَّنة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}[النساء].
فلِم يتطاول العلمانيون على إرادة خالقهم؟ ولماذا تجعل القناة الثانية نفسها مسرحا لذلك التطاول؟
تناقض العلمانيين
وموقف العلمانيين العدائي من الحجاب لا يمثل تطاولا سفيها على إرادة مقدسة فحسب، بل هو أيضا تناقض غريب من القوم الذين يعتبرون الديمقراطية والحرية أعظم شعار لمذهبهم، ويسوغون بذلك أقبح الأقوال وأشنع الأفعال؛ كالتبرج والعري والزنى واستباحة الخمور والشذوذ، والهزء بالله وآياته ورسوله ..، ثم يرفضون ترك المحجبات وما اخترن لأنفسهن من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيرصدون حالهن (الذي جعلوه: ظاهرة!) عبر دراسة علموا من خلالها نسبة تقبل المغربيات للحجاب، ثم أقاموا تحقيقا في الموضوع جرت عادتهم أن يقيموه في القضايا الاجتماعية السلبية، وأبدوا تحيزهم لقناعة الرافضين للحجاب! فأين هي الديمقراطية واحترام الحريات؟!
إن هذا السلوك يؤكد أن الحرية التي يريدها العلمانيون هي الحرية في كل شيء -ولو كان أكبر الكفر-، إلا الحرية التي تجعل التدين يتفسح في المجتمع وينتشر، ويخترق حدود الضمير وبناية المسجد والزاوية، ليحل في مؤسسات الدولة المختلفة ومرافق المجتمع المتنوعة، فجمعوا بين التطاول الفرعوني والكيل بمكيالين.
.. ولا أجد تعليقا على هذه الحرب العدوانية أبلغ من قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (7) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (8)} [الصف].
كما أنني لا أجد تصويرا مشبها لتطاول العلمانيين على تلكم الإرادة الإلاهية أبلغ من قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّيَ أَبْلُغُ الْاَسْبَابَ (35) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (36)} .