شارلي هيبدو وصدام الحضارتين! ذ. طارق الحمودي

أكثر من خمسين رئيس حكومة عالمية يشاركون في المظاهرة الباريسية تنديدا بمقتل أعضاء تحرير صحيفة شارلي هيبدو المجرمة في حق نبينا بل وفي حق الأنبياء من أولي العزم خاصة، بل وفي حق الله تعالى جل في علاه، ومعهم آلاف من الفرنسيين، فيهم الملحد والصليبي والصهيوني والمغفل والمخطوف ذهنيا من نماذج الصناعة الإعلامية الفرنسية كلهم يستنكرون قتل من كان يجتهد في إمتاعهم مرارا بالسخرية من الخالق جل وعلا ومن أنبيائه ورسله، فاليوم لن يجدوا من يضحكهم ملأ أفواههم استهزاءا بخير البشر وأسيادهم.
كثير من المتعاطفين العرب ممن اعتبروا أنفسهم (شارلي هيبدو) لا يستحضرون أنهم بهذا يوجدون دعما معنويا لكل من يجد في نفسه حقدا على الأديان وعلى الإسلام خاصة، بل هم بذلك مشاركون للصحيفة في كل كلمة استعملت في السخرية من الأنبياء.
حينما طالعتني بعض القنوات على شاشة تلفازي بمشهد «مهيب» لـ«بعض» الفرنسيين ظننت أنني أتابع إعادة لما بث من مصر من نزول «بعض» المصريين لتفويض سيدهم لمحاربة الدعوة إلى الله تعالى باسم الشعب، إلا أنني رأيت شعورا صُفرا ولافتات بالفرنسية كتب على بعضها: « شارلي أكبر» ردا على ما تردد على ألسنة القاتلين من تريدد كلمة «الله أكبر»، فالدافع للخروج معروف.
سيقول بعض المتفلسفة عندنا أننا يجب أن نستنكر كل عنف ضد الصحافيين والجواب على هذا أننا ضد كل عنف على الإنسان بدون حق لكن نستنكر عنف من؟ أفلا بينوا لنا من كان الفاعل أم أنه قتل، ولم يستطيعوا تقديمه للمحكمة؟
أم أن المحاكم الغربية اليوم تصدر الأحكام بُعيد التهمة بسويعات وتنهي القضية بطلقات ثم تختم القنينة بسدادة من كذيبات؟
بالمناسبة لست أنسى بعض المتثقفين عندنا فقد وجدتهم في مثل هذا تخونهم منهجيتهم العلمية الصارمة في ربط كل التصرفات والأقوال والأحداث بالمقاصد السياسية فلو عطس فقيه بقرب قصر ملك وشمته فارس صادف مروره أمامه عبر مزرعة فلاح لقالوا: هذه الحادثة سياسية بامتياز، واليوم سمعتهم وقرأت لهم يتحدثون عن خروج الشعب الفرنسي بدافع المواقف الإنسانية بل إن خروج القادة الأوربيين أيضا لا علاقة له بالسياسة ولا بألاعيبها.
قد قالها صحافي الجزيرة وهو يبكي: ستكون أيام المسلمين في فرنسا عصيبة.
هؤلاء القادة الذئاب يخططون لأمر مخيف في حق إخواننا في أوروبا رجالا ونساءا فقد استشعروا شيئا ما يهدد حكمهم .وهويتهم فثارت القطة الأوربية تأكل صغارها .ولن تتردد في أكل صغار غيرها.
أستغرب من هذا التوقيت والتنسيق اللذان ويوحيان إلي ببعض ملامح المؤامرة التي ستجد من يسخر منها لغرقه في بحر من الغفلة أو انشغاله بالذوبان والتفسخ في الأحماض الهوياتية الغربية.
لا يمكن للباحث في الفكر والسياسة أن يقرأ الحدث مستقلا عن سياقه البعيد والقريب، فطارق رمضان لم يكن يمارس ترفا فكريا أو بهرجة إعلامية وهو يواجه الآلة اليمينية المتطرفة في السياسة الفرنسية التي تكلفت مشروع الإقصاء للإسلام وممانعته قانونيا وأمنيا، لم يكن أمثال فيليب دو فيليي Philippe de Villiers يمزح حينما صرح بوجوب خضوع المسلمين للقيم الفرنسية، وللقوانين التي كانت تصنع الليلة وتطبق صبحها، لم يكن اليهودي إيريك زمور (Éric Zemmour) يؤدي دور الفرنسي المواطن الصالح وهو يعترف بكل أريحية واطمئنان بأنه ضد أي مظهر من مظاهر أسلم الدولة والشعب الفرنسي. لم يكن ساركوزي نفسه وهو يناور في مقابلة تلفزية مناورة الماكر المتفلت يقصد إقناع المغفلين أو غلبة المحاور، لم يكن هؤلاء أجزاء من لقاءات حوارية طرفها طارق رمضان عبثا؛ فقد أرادت الدولة الفرنسية أن ترسل رسالة واضحة لا تحتمل المناقشة أو الانتقاد لا نريد الإسلام في فرنسا، بلد النصرانية الأولى، وإلا فالضرب تحت الحزام سيكون الحل الأمثل دفعا لخطر دخول الإسلام إلى البيوت الفرنسية، ثم إلى سياسة جمهورية الأخوة والحرية والمساواة الغارق في وحل العلمانية الشاملة.
لقد قامت الشواهد اليوم على أن فرنسا بدأت تخسر مساحات مهمة فكريا وثقافيا، وبالتالي تفقد سيطرتها الفرنكفونية على المستعمرات القديمة؛ صارت اللغة الفرنسية تعيش اليوم إشكالية البقاء أو التحول، وانفلتت من بين أصابعها خيوط التحكم في بلدان النفط السوداء، صارت معرضة لتراجع حاد في الحضور السياسي، لحساب دولة هتلر الجديدة، الدولة الآلة، التي تقودها المرأة الرجل ميركل، والتي جعلت من فرنسا منتزها وحديقة خلفية ليساسات ألمانيا الحديثة التوسعية الافتراضية الساعية إلى رد الاعتبار بعد الخسارة في الحربين.
فالشعوب لا تنسى آلامها ولا آمالها، ولذلك كانت المرأة الهيتلرية في مقدمة رؤساء حكومات الدول الأوروبية في المسيرة الباريسية، فألمانيا أيضا مهددة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الشرك».
حينما كان طارق رمضان يحذر محاوريه من طريقة تناولهم لموضوع الأقلية المسلمة الفرنسية في فرنسا كان يحذر ذئابا من مكرههم للسطو على دجاجات الأقليات الإسلامية، كان طارق يحذرهم، وهم يسخرون من سذاجته وحسن ظنه بهم.
لم يكن الاستشراق الأوروبي والأمريكي غائبا عن هذه المسرحية؛ فله اليد الطولى في توجيه سياسات الغرب، ومراكزه البحثية تعمل ليل نهار على وضع الأوراق المستوفية لشروط البحث العلمي للكشف عن طبيعة الصراع والخصم على الطاولات السياسية، في صدام الحضارات، لكن الساسة الغربيين لم يظهر فيهم بعد البطل القومي الذكي المستجمع لصفات القيادة الحكيمة فلا تزال تنزيلاتهم للنصائح الاستشراقية تنقصها الدقة والاحترافية، فساسة الغرب اليوم مثال للأخرق الذي يصعد لخشبة المسرح ليفضح ضعفه الفني وأنه لا يصلح إلا ليبيع السجائر على الأرصفة المتسخة.
وعودا على بدء؛ لا كرامة لمن سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليسكت بعض مثقفينا ممن يجدون في أنفسهم ميلا إلى الانتقام من خصومهم الفكريين في مثل هذه الأحداث متغافلين أو غافلين عن المحددات الصحيحة للقراءة العقلية للأحداث فيقرؤونها بعواطفهم وتكون أحكامهم انطباعية بعيدة عن الموضوعية.
لا نريد أصحاب مشروع الانهزام والذلة، فمثل هذه الأحداث لا تزيد أهل الإيمان إلا إيمانا فالله تعالى يقول: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، ولن نتبع ملتهم إن شاء الله، والله أكبر والصغار على شارلي ومن يؤيدها.
إن كان عدونا يريد مدافعة فكرية فأهلا وسهلا، وأما غيرها فالله بالمرصاد.
والذي يبدو لي أن الغرب اليوم يعي جيدا أنه ضعف عن ذلك، فحَنَّ إلى سلاح البارحة سلاح يكتب بالدم لا المداد؛ ولن يقتل به إلا نفسه.
قتلانا في سوريا والعراق وبورما ومصر وغيرها بالآلاف؛ ولم يكلف رئيس غربي واحد أن يطل من شرفة قصره ليقف ثانية واحدة مستنكرا قتل كل هؤلاء المسلمين لو فعل لأسقط من شرفته وكسرت رقبته ما فعلوا إلا بعد أن قبض على صحفيي الجزيرة لأن فيهم أستراليا أزرق العينين.
لا يتسرعن أحدكم في أخذ موقف مما جرى؛ فستظهر أشياء تعين على فهم ما حدث، وسيجتهد القلم العلماني في استثمار ما جرى إلى أقصى حد ممكن.
تابعوهم.. وتابعونا..
والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *