التمييز في ديننا لا يعني الظلم ولا إضاعة الحقوق، سواء حقوق الأقليات الدينية أو الأقليات العقدية، فالظلم حرام حتى مع الأعداء ولا يبيحه شيء، فمع إقرارنا بالتمييز القائم على أساس الإيمان فإنه ينبغي أن ينال كل إنسان حقه بمقتضى ما شرع الله من غير بخس.
التمييز والتهميش لفظان يستخدمان بكثرة في موضوع الأقليات ويتعامل معهما في أحيان كثيرة على أنهما مترادفان وليس الأمر كذلك فالتمييز يراد به الفصل بين الأشياء، وأما التهميش فيراد به الإهمال، ولا ينبغي تهميش الأقليات سواء كانت دينية أو عقدية بل ينبغي أن تعطى حقها وأن يتم التعامل معها بالعدل، وتاريخنا الإسلامي حافل بالعدل مع الأقليات وإعطائها حقوقها، لكن التمييز أمر آخر إذ حقيقة الأمر أنه ما من مكان على وجه الأرض إلا وفيه تمييز بين الناس.
فلا يمكن أن يعطى مثلا العالم أو الطبيب أو المهندس راتبا يتساوى مع راتب عامل النظافة، بل في داخل المهنة الواحدة يحدث التمييز والتفاضل بين الناس على أساس طبيعة المهمة والجهد المبذول والخبرة وغير ذلك من الأمور، ولكن المشكلة الحقيقية أن يتم التمييز بين الناس على أساس غير صحيح، فالتمييز على أساس أمور لا دخل للإنسان فيها تمييز غير صحيح، كالتمييز على أساس اللون أو اللغة أو العرق، أما التمييز بين الناس الناشئ عن أفعال الناس وتصرفاتهم وما كسبته أيديهم فهذا تمييز يقوم على أساس صحيح، ومحاولة إلغاء التمييز على أساس العمل هو إفساد للعالم كله، ولا يقبل أحد بذلك ولن تستقيم به الحياة.
فالعالم كله مسلمه وكافره قائم على التمييز على أساس العمل لأن إلغاءه يعد من السفه، ولا شك أن الإيمان من أعظم العمل، فكيف يقبل في العقول أن يُلغى التمييز القائم على أساس الإيمان، فالتدين والاعتقادات عمل من كسب الإنسان، والدين منه حق ومنه باطل، ومنه إيمان ومنه كفر، فلو لم يكن هناك تمييز على أساس الإيمان لكان في هذا أعظم الظلم، حيث يساوى بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان.
لذلك كانت مسألة الولاء والبراء من الأمور العظيمة في الإسلام وهي في حقيقتها تمييز بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر وعدم المساواة بينهما، ولا تفسد الحياة بشيء أكثر من فسادها بالتسوية بين الحق والباطل، غير أن هذا التمييز ليس تمييزا أبديا لأنه لا يقوم على أمور لا دخل للإنسان فيها كاللون والجنس والقوم، وإنما هو قائم على عمل كسبي يمكن لكل أحد أن يسعى أو يقوم بتغييره.
فبإمكان الكافر أن يسلم، وبإمكان أهل الفرق أن يعودوا للسنة، وبذلك لا يكون هناك تمييز بالنسبة لهم وذلك بعكس التمييز الباطل القائم على صفات لازمة في الإنسان لا هي من كسبه ولا يقدر على تغييرها، فسيظل هذا التمييز قائما دون وجود بارقة أمل في انتهائه.
وقد دل على هذا التمييز القائم على أساس عمل الإنسان آيات كثيرة من كتاب الله تعالى فقال عز من قائل: “أفنجعل المسلمين كالمجرمين”، وقال تعالى:” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”، وقال تعالى: “لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة”، وقال سبحانه: “أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون” وغير ذلك من الآيات.
كما ميزت الأدلة الشرعية بين الناس على أساس الإيمان في أسمائهم وأحكامهم في الدنيا وفي الآخرة، ولا ينبغي لأحد أن يغتر بما هو قائم في دول الغرب عندما منعوا التمييز القائم على أساس الدين ، فإنما ذلك لهوان الدين عندهم حيث لا يستحق أن يكون عاملا من عوامل التمييز، ولعل ذلك راجع عندهم إلى ما يوجد في دينهم من الفساد والأباطيل التي لا يمكن قبولها، ولأن الذي في هذه الدول ليس أكثر من رغد العيش، لكنهم لا يقيمون حقا أو يرفعونه ولا يرفضون باطلا أو يضعونه إلا ما فيه مصلحة لهم، فالحق والباطل عندهم تابع للمصالح والمنافع التي يجنونها من وراء ذلك حسب المذهب النفعي (البراجماتي) الذي يسيرون عليه.
وتاريخهم القديم والحديث دليل على ذلك، فقد احتلوا كثيرا من الدول بغير مسوغ: فأكلوا خيراتها ونهبوا ثرواتها، وساموا أهلها سوء العذاب: فقتلوا الرجال ورملوا النساء ويتموا الأطفال، وأفسدوا في الأرض ونشروا فيها الرذائل والموبقات، في أمور كثيرة يصعب حصرها، فما قدمت هذه الأنظمة للإنسانية من الدمار والفساد والظلم، أكثر بكثير مما قدمته من العدل والحرية والإعمار.
لكن التمييز في ديننا لا يعني الظلم ولا إضاعة الحقوق، سواء حقوق الأقليات الدينية أو الأقليات العقدية، فالظلم حرام حتى مع الأعداء ولا يبيحه شيء، فمع إقرارنا بالتمييز القائم على أساس الإيمان فإنه ينبغي أن ينال كل إنسان حقه بمقتضى ما شرع الله من غير بخس. (انظر: وضع الأقليات في الدولة الإسلامية؛ لمحمد بن شاكر الشريف).