سؤال تأسيسي يطرح نفسه وبقوة من رحم الأزمة الإقليمية: هل من رابط بين كوباني، عين العرب، في سوريا وعامرية الفلوجة والأنبار، وكردستان في العراق وسيناء في مصر واليمن وبنغازي في ليبيا؟
وهل هي حروب بالوكالة، أم صراع سياسي بنكهات مختلفة؟
أم أنها حدود يعاد رسمها بقوة السلاح بدل الرمال، وخرائط جديدة لكيانات ترسم بالدماء، ومجموعات مسلحة تضخمت وبلعت دولا واستنزاف لأطراف وحماية لعمق استراتيجي؟!
كان المستشرق الصهيوني الانجليزي المولد والأمريكي الموطن «برنارد لويس» أول الداعين إلى مشروع تقسيم وتجزئة الشرق الأوسط من باكستان إلى المغرب العربي حيث طرح هذا الموضوع عشية إقامة الإمبريالية الغربية للكيان الصهيوني على أرض فلسطين سنة 1948م، ثم نشر المستشرق الصهيوني دراسة في مجلة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) يقترح فيها إعادة وزيادة تفتيت العالم الإسلامي من باكستان إلى المغرب، وإنشاء أكثر من ثلاثين كيانًا سياسيًّا جديدًا.
وهذا الحديث يعني تحويل العالم العربي والإسلامي إلى «فسيفساء ورقية» تقوم فيها 88 دولة، بدلاً من 56 دولة، بما يعنيه هذا التقسيم المقترح من شقاقات وصراعات وحروب وآلام، تزيد هذه الكيانات ضعفًا فوق ضعفها، وهزالاً فوق هزالها، ولقد كان برنارد لويس صريحًا عندما قال: «إن هذا التفتيت للعالم الإسلامي هو الضمان الحقيقي لأمن إسرائيل، التي ستكون الأقوى وسط هذه الفسيفساء».
وفي عام 1980م والحرب العراقية الإيرانية مستعرة صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي «بريجنسكي» بقوله: «إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن 1980م هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود «سايكس/بيكو».
وعقب إطلاق هذا التصريح وبتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» بدأ المؤرخ الصهيوني «لويس» بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا على حدة، ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي. وتفتيت كل منها إلي مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية.
الصحيفة الأمريكية «وول ستريت جرنال» في عدد خاص صدر بمناسبة مرور تسعين سنة على مولد «برنارد لويس «ذكرت» أن «لويس» كان مع الرئيس بوش الابن ونائبه تشيني، خلال اختفاء الاثنين على إثر حادثة ارتطام الطائرة بالمركز الاقتصادي العالمي، وخلال هذه الاجتماعات ابتدع لويس للغزو مبرراته وأهدافه التي ضمَّنها في مقولات «صراع الحضارات» و«الإرهاب الإسلامي».
وقد قدم لويس الكثير من الذخيرة الأيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب؛ حتى إنه يُعتبر بحقٍّ منظرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة، بحسب وصف الصحيفة نفسها.
وفي مقابلة أجرتها وكالة الإعلام الأمريكية مع «برنارد لويس» في 20/5/2005م قال الآتي بالنص: «إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان.
إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية».
في ضوء هذه الذاكرة السوداء، والرصيد التآمري الضخم ضد العالم الإسلامي والمنطقة عربيا خصوصا، لنا أن نتساءل: ما الذي يخطط ويراد للشرق الأوسط؟
تساؤل لابد أن تشغل بال الجميع بعيدا عن المنافرات الأيديولوجية أو الصراعات السياسية أو المشاكسات الحدودية.
وسؤال تأسيسي يطرح نفسه وبقوة من رحم الأزمة الإقليمية: هل من رابط بين كوباني، عين العرب، في سوريا وعامرية الفلوجة والأنبار، وكردستان في العراق وسيناء في مصر واليمن وبنغازي في ليبيا؟
وهل هي حروب بالوكالة، أم صراع سياسي بنكهات مختلفة؟
أم أنها حدود يعاد رسمها بقوة السلاح بدل الرمال، وخرائط جديدة لكيانات ترسم بالدماء، ومجموعات مسلحة تضخمت وبلعت دولا واستنزاف لأطراف وحماية لعمق استراتيجي؟!
قصة داعش التي فاجأت الجميع بصعودها وتوسعها وزحفها وتمددها الذي بعث على الريبة عند الكثيرين، وأثار أكثر من علامة استفهام.
الحملة الجوية الأمريكية تقصف مواقع في سوريا والعراق لتوقف تقدمها، بينما تستهدف طائرات أمريكية أخرى مواقع القاعدة في اليمن لتفك الحصار عن مجموعة مسلحة غازية أخرى، تمددت وتسلمت محافظات بأكملها تحت سمع وبصر أمريكا والنظام الحاكم والجيش، وهم الحوثيون.
والشاهد الأبرز أنه لا أثر لسلطة الدولة في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر على الطريق ذاته، صراع يتمدد زمنيا ويزداد حدة وزخما، والتدخلات الأمريكية توجه المسار أو تفك الخناق لا أكثر، في إصرار مريب على استمرارية الصراع وديمومة الاحتراب الأهلي والإقليمي، فهي تدعم الأسد وتسلح معارضيه، وتتظاهر بعداوة إيران وتغض الطرف عن جرائم مليشياتها وأذرعها العسكرية في المنطقة ممثلة في حزب الله اللبناني؛ والحوثيين؛ ومليشيات الحرس الثوري في العراق، تدعم السيسي وتمده بالمال والسلاح وتستقبل معارضيه من الإخوان المسلمين بالكونجرس، وهدفها الأهم من هذه الانتهازية السياسية: رسم خرائط جديدة للمنطقة.
وأكثر الأطراف استفادة من هذه المخططات الأمريكية الآثمة؛ إيران والكيان الصهيوني، فإيران حققت اختراقات غير مسبوقة وكان آخرها اليمن، وصارت فعليا تتحكم في قرار ومصير أربع عواصم عربية؛ بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وتعيش هذه الأيام ذروة مجدها السياسي والاستراتيجي.
أما الكيان الصهيوني فهو كيان منكمش غير قابل للتوسع لكنه أيضا مسكون بهاجس تأمين حدود أمنه القومي.
وهما الآن يخوضان صراعا مريرا، عسكريا بالنسبة لإيران، ومخابراتيا بالنسبة للكيان الصهيوني، لحماية حدودهما والتي تتجاوز الحدود الجغرافية إلى العمق الاستراتيجي، وعلى امتداد مناطق الصراع لكل منهما، وخطوط التلاقي أحيانا أكثر من نقاط الصدام، عدوهما الأول والأخير من يهدد ليس وجودهم وإنما عمقهم الاستراتيجي.
وكل يوظف أدواته ويسند حلفاءه وحماة حدوده الاستراتيجية ويوثق صلاته بالمنضمين للجدد لناديهم، لكن مجريات الأحداث والتقلبات تعاكس أحيانا رغباتهم وتصطدم مع إرادتهم.