إذا كان تقديس الرأي لدى الغربيين ومن وافقهم من العلمانيين والليبراليين العرب قد بلغ درجة كبيرة من التطرف والانحراف؛ فإن بعض المفكرين المسلمين استنسخوا مقولات الغربيين والليبراليين العرب في حرية الرأي، مع زيادة أمرين:
الأول: أنهم زعموا أن الإسلام سبق إلى حرية الرأي وتقريرها، أو على الأقل لم يعارضها.
الثاني: أن أكثرهم حاول أن يضبطها بضوابط شرعية.
ومن أقوالهم في حرية الرأي:
– كفل الإسلام للناس أن يقولوا ما يشاءون، ويبدون آراءهم دون أن يمسوا مشاعر الناس وعقائدهم. (المجتمع المتكافل في الإسلام، عبد العزيز خياط: 72).
– وكل شيء في الإسلام قابل للمناقشة العقلية ابتداء من وجود الله إلى أبسط المسائل. (حرية الفكر، محمد العزب موسى: 101).
– إن حرية إبداء الرأي تعد بمثابة العمود الفقري للحريات الفكرية؛ ذلك أنه إذا كان من حق الإنسان أن يفكر… فإن حقه هذا يبقى ناقصاً إذا لم يتمكن من التعبير عن أفكاره وآرائه ومعتقداته… ولقد بلغ من اهتمام الإسلام بحرية الرأي أن اعتبرها ضرورة لا مجرد حق. (حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، د.هاني سليمان الطعيمات: 181).
واستدل الداعون إلى حرية الرأي من المسلمين بجملة أدلة يمكن تقسيمها بحسب موضوعاتها إلى قسمين:
القسم الأول: البراءة الأصلية، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يحرم بنص من القرآن أو السنة، ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع المسلم من ممارسة حقه في حرية الرأي والتعبير. (موسوعة حقوق الإنسان الرؤى الإسلامية والعربية والعالمية: 115).
وبعض أصحاب هذا الاتجاه في الاستدلال يجعلون الإباحة في الأحكام التكليفية هي الحرية، أو ما يسميه الأصوليون: الحكم التخييري. (حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية: 91).
القسم الثاني: النصوص القرآنية والنبوية، وهي على أنواع:
– نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– نصوص الصدع بالحق والتواصي به.
– نصوص الدعوة إلى الله تعالى.
– نصوص النصيحة.
ووجه احتجاجهم بها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، وإسداء النصيحة، كلها من الآراء التي يبديها أصحابها ويظهرونها ويعلنونها في الناس، فكان الإسلام بها سابقاً إلى حرية إبداء الرأي وإظهاره.
ووجه استدلالهم بها أنها من الآراء التي يبديها أصحابها ويظهرونها ويعلنونها في الناس، فكان الإسلام بها سابقاً إلى حرية إبداء الرأي وإظهاره.
ووجه خطئهم في هذا الاستدلال من وجوه:
أولاً: الاستدلال بأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريم الرأي، هذا غير صحيح؛ إذ دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأصل في الرأي التقييد وليس الإطلاق، أي: التحريم وليس الإباحة.
ثانياً: أن استدلالهم لحرية الرأي بالنصوص من الكتاب والسنة الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى فيه تكلف، وليٌّ لأعناق النصوص، وجرٌّ لها في غير ميادينها؛ إذ الفروق بينها وبين حرية الرأي في المفهوم المعاصر فروق كبيرة تصل في كثير من الصور إلى التعارض والتضاد، ومن هذه الفروق:
1- في تعريف كل منها:
فالمعروف عرفه الطبري بأنه: «كل ما أمر الله تعالى به أو ندب إليه من أعمال البر والخير». (تفسير الطبري: 5/276).
والمنكر هو ما نهى الله تعالى عنه وقيل: هو «كل ما ينكره الشرع». (انظر التحرير والتنوير 20/260؛ وتفسير السمعاني).
وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها.
وأما النصيحة فهي حسبما عرفها ابن الصلاح رحمه الله تعالى: «كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً». (صيانة صحيح مسلم ص:221).
وأما الدعوة إلى الله تعالى فهي: الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا.
أما حرية الرأي فقد مضى أنه يراد بها: تمكين الفرد من إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأي وسيلة كانت، وهذا يعم كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو كتابة أو إشارة أو صورة أو نحوها.
فيلاحظ في تعريفات المعروف والمنكر والنصيحة وغير ذلك بناؤها على الأصل الشرعي والتركيز عليه، وهدفها تحصيل الإيمان والطاعة والحق والخير، بينما حرية الرأي وفق المفهوم الغربي وإعلانات حقوق الإنسان كما يظهر من تعريفها لا تمنع من إبداء الكفر والمعصية والباطل والشر.
2- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والدعوة إلى الله تعالى والنصيحة واجبات شرعية، وعبادات يؤجر عليها من قام بها، ويأثم بتركها إن كان قادراً على القيام بها. أما حرية الرأي عند المقررين لها من الغربيين ومن وافقهم فهي من المباحات لصاحبه، فلا يجب عليه أن يبدي رأيه؛ وذلك لأنه لا أثر للدين في التشريعات الغربية في قضايا الحرية، فهي مجرد حقوق مدنية دنيوية ممارستها غير ملزمة للفرد.
3- أن هذه الشعائر الأربع الواجبة في الإسلام وما ماثلها تتعارض مع الحرية الشخصية في الفكر الغربي تعارضاً كبيراً؛ إذ إن الإنسان في الإسلام معبد لله تعالى، مستسلم لأمره حتى في أموره الخاصة، بينما هو حرٌّ في الفكر الغربي في حياته الخاصة بشرط أن لا ينتهك حرية الآخرين؛ ولذا كانت حرية الرأي في أكثر استعمالاتها الغربية لا تتعارض مع الحرية الشخصية عند الغربيين؛ بل تتسق معها في الغالب، وفي الحالات التي يقع فيها تعارض تحسم القضية لمصلحة الحرية الشخصية فتقدم على حرية الرأي.
يقول جون ستيوارت ميل (1806/1873م): إن الفكرة القائلة بأن من واجب الإنسان حمل غيره على طاعة أوامر الدين هي الأصل والأساس لكل ما ارتكبه البشر من ضروب الاضطهاد الديني، إذا سلمنا بصحتها وجب أن نسلم بمشروعية كل ما وقع من حوادث الاضطهاد… وما هو في الواقع إلا تصميمنا على منع الفرد من مباشرة ما هو محلل في دينه؛ لأنه محرم في ديننا اعتقاداً منا بأن الله لا يكتفي بإنزال نقمته على الملحد حتى يعدنا مقصرين ومذنبين إذا نحن تركناه في إلحاده آمناً مطمئناً. (الحرية لمل: 147).
وفي هذا النص من عرَّاب الحرية الغربية وفيلسوفها ميل ما يدل على تعارض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية؛ لأن في الأمر بالمعروف حملاً على الطاعات، كما أن في النهي عن المنكر حملاً على ترك المحرمات. (انظر: حرية الرأي.. رأي آخر..؛ لإبراهيم الحقيل).