من الخطط التي يسير عليها العلمانيون لتحقيق مآربهم، هو انتظار وقوع خطأ أخلاقي من أحد خواص المسلمين؛ من داعية، أو مفكر، أو خطيب، أو إمام مسجد، أو أستاذ لمادة التربية الإسلامية أو سياسي،أو زعيم، وأحيانا مسلم من عموم الناس، إلا أنه يوحي مظهره بالتدين والاستقامة..فيستغلون الحدث ويعزفون على ما يوصلهم إلىتلك السمفونية المملة:
انظروا إلى هؤلاء الإسلاميين..!؟
كم هم منافقون..!؟
يحرمون الزنا ويفعلونه..!؟
يحرمون الإجهاض ويقومون به..!؟
يحرمون الشي ويأتونه…!؟
أين هو خطاب الطهرانية…!؟
أين المواعظ البليغة والكلام المثالي..!؟
هم أيضا يعلمون أن خاطبهم غير واقعي..!؟
هم أيضا يعترفون بلسان حالهم أن دعوتهم لا تناسب هذا الواقع..!؟
وغير ذلك من العبارات التي تتماشى مع هذا اللحن الهابط الممل.
وبعد هذا التشهير والاستهزاء لأجل الفضح والإحراج، يطالب العلمانيون سائرَ الإسلاميين أو الإسلامويين -حسب تعبيرهم الاستئصالي والعنصري- بأن يكونوا واقعيين، وأن يقوم أهل التنظير منهم بمراجعات لأحكام الشريعة، ويتخلوا عن خطاب الطهرانية والمثالية الفارغة، ويقرروا ما يناسب الواقع المعيش، ويتركوا فقه النعامة كما يقولون.
والغرض من هذا الأسلوب المكيافلي الذي يوظفه العلمانيون هو صناعة الضغط النفسي والإرهاب الفكري وإحداث الإرباك في الخطاب الدينيحتى يستجيب المسلمون لطلب المراجعة لأحكام الشريعة لكيتتوافق مع أطروحة العلمانيين..
والأمثلة التي تشهدلصحة ما وصفنا به العلمانيين كثيرة جدا، لا داعي لذكرها، كما أنه لا يليق بنا أصلا أن نعاود ذكرهاونسهم في نشر تلك الشواهد من جديد، فإن من حقوق الإنسانفي الإسلامالتسترعلى من وقع في الكبائر وحرمة التشهير به، وهذا أمر معلوم ومتفق عليه بين المسلمين، وتشهد له نصوص شرعية متنوعة، وهو من محاسن الشريعة الإسلامية.
والمتأمل للخطةالتي يعتمد عليها العلمانيون لكسب ما يؤيد معتقداتهم وتمرير أفكارهم، يجدها تتضمن مغالطة خبيثة، تكشفها الأمثلة الآتية، والتي هي بلسان حال العلمانيين:
ـ أنت أيها الإسلامي تدعو نفسك والمجتمع إلى التزام الأحكام الشرعية، إذنأنت لا يقع منك خطأ، وإذا وقع منك خطأ فأنت منافق وما تدعو إليه غير صحيح…
ـ أنت أيها الإسلامي تدعو إلى الطهر، إذن أنت طاهر ملاك، وإذا صدر منك ما يخالف الطهر، فما تدعو إليه -في الحقيقة- هو شعارات زائفة ومثالية زائدة، والطهر ليس ممكنا ولا واقعيا فيجب تركه والتخلي عنه…
ـ أنت أيها الإسلامي تدعو إلى العفة واحترام النسل، وإذا وقعت في الزنا وقمت بالإجهاض فأنت تبيع الأوهام للناس، فما عليك إلا أن تترك ما تدعو إليه من الأوهام؛ أي منالعفة واحترام النسل.. وتشارك أهل الزنا والإجهاض وتسعى إلى تقنين الفاحشة والقول بمشروعيتها، لأنها هي التي تناسب الواقع المعيش…
ـ أنت أيها الإسلامي تقرر أن توثيق عقد الزواج من الشرع، وهو يخدم المصالح الخمس الضرورية، فإذا تزوجت دون توثيق عقد الزواج أو ما يسمى بزواج الفاتحة المشتمل على أركان الزواج الحلال، فما قررته من قبلُ غير صحيح، وما قمت به في الحقيقة هو تحايل منك للوقوع في العلاقة الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج، فكن واقعيا؛ فإن رفع تجريم العلاقة الجنسية الرضائية أي الزنا هو الذييناسب واقعنا اليوم…
وهكذا.. يعتمد العلمانيون على هذه المغالطة المكشوفة، التي لا تُقَيّم الفعل من حيث هو فعل، ولا تحاكم الأفعال التي صدرت من بعض الإسلاميين إلى ميزان العقل، ولا تبحث عن الحسن والقبح الذاتيين لتلك الأفعال عند العقلاء، بل تحرص فقط على استغلال الحدث وإظهار تناقضات بعض الإسلاميين الذين وقعوا في مخالفات شرعية بين ما يقولونه وبين ما يمارسونه بغية تشويه الإسلام. ويتقوى أصحاب هذه المغالطة بأسلوب الإحراج وفضح ما يجب ستره شرعا وعقلا حتى يتم الاستجابة لطلبهم، فيقوم أهل التنظير بمراجعات لتغيير أحكام الشريعة ونقض ثوابت الدين.
وللأسف الشديد، فقد وُجد من الإسلاميين؛ أصحاب النظر القصير، ومن أصيبوا بلوثة الهزيمة النفسية أمام المخالف، من استجاب لمقتضيات هذه المغالطة، وادعى أن الشريعة الإسلامية، وخصوصا ما يتعلق بمفهوم الحلال والحرام، هو أمر يخص المكلف لوحده، بينه وبين ربه، فمن امتثل إلى ذلك المفهوم وعمل به فهو محسن ومن لم يمتثلإليه فهو مسيئ وحسابه على الله، ولا دخل للمجتمع فيه ولا حسبة عليه إذا قام به في خاصته، وإنما المجتمع يتحاكم إلى قانون وضعي يتم التوافق عليه بين جميع مكوناته، وهو الذي يتم محاسبة المخالفين له وفق فصوله ومواده القانونية. والأنكى من ذلك كله، أن ينسب هذا السفه أو الزندقة إلى الإسلام بدعوى أنه لا إكراه في الدين، كلمة حق وظفت في الباطل.
ونحن إن كنا لا نرضى أن يقع المسلم في معصية أوكبيرة سواء كان من عامة المسلمين فضلا على أن يكون من خاصتهم، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والفسوق، فإننا في الوقت نفسه نزيف أسس هذه المغالطة التي يستند إليها العلمانيون ويسعون من خلالها إلى كسب ما يؤيد أطروحتهم، ونلعنها جهارا نهارا كفاحا:
أننا نحن -المسلمين- لسنا ملائكة في الأرض إنما نحن بشر، نصيب ونخطئ، وخطؤنا لا يحسب على شرع ربنا جل جلاله، فمن زنا فعليه زناه لوحده، ومن خان فعليه خيانته لوحده، ومن أجهض فعليه إجهاضه لوحده، والشرع بريء من كل مخالفة تصدر من المكلف أيا كان مقامه وانتماءه.
وإعلان هذه الحقيقة ليس وليد هذا الواقع الذي يعج بالمنكرات والتناقضات، ولا وليد مصالح حزبية ضيقة، ولا نتاج هزيمة نفسية، ولا دفاعا عمن أخطأ من الإسلاميين، إنما نحن نعلن هذه الحقيقة لأنها أولا وأخيرا هي الحقيقة الثابتة، والتي جاءت النصوص الشرعية تبشر بها المسلمين منذ بدء نزول الوحي إلى أن كمل.
وكون المسلمين يخطئون سواء من عامتهم أو خاصتهم، فيفتح لهم باب التوبة ويتيسر لهم الرجوع إلى طريق الاستقامة هي من الواقعية التي أكدت صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، فهي بهذا الاعتبار مسألة إيجابية وليست سلبية.
ولهذا، كانت أخطاء بعض المسلمين لا تضاد صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، بل تلك الأخطاء من مظاهر واقعية الإسلام، فهو دين واقعي، إلا أنها تنسب إلى من فعلها ولا تنسب إلى الشرع.
والأمثلة التي تشهد لوجود هذه الحقيقة منذ الصدر الأول كثيرة جدا، لا تخفى على أحد؛ فقد كان من المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام من وقع في الزنا، وكان منهم من شرب الخمر، وكان منهم من سرق، وكان صدرت منهم أشياء كثيرة تدل على أنهم يخطئون، رغم كونهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهدوا نزول الوحي، وأخذوا حظا أوفر من التزكية؛ لأنهم بشر وليس ملائكة في الأرض.
ومن هذه الأمثلة الكثيرة ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند حسن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ، فَضَمَمْتُهَا إِلَىَّ وَبَاشَرْتُهَا وَقَبَّلْتُهَا، وَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَىْءٍ، غَيْرَ أَنِّى لَمْ أُجَامِعْهَا.
قَالَ ابن مسعود: فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). قَالَ: فَدَعَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».
ففي الحديث إقرار من الشرع ببشرية الإنسان، وأنه معدن الخطأ، وهي حقيقة ثابتة لا تنافي محاولة استقامة المسلم على الجادةوأحكام الشريعة، فليس بين الأمرين تناقض حتى نضطر إلى الالتزام حقيقة دون أخرى، فالنقيضان هما اللذان لا يجتمعان مع بعضهما البعض في نفس المحل والزمان.ولكن إذا أخطأ المسلم يلزمه التوبة وما يناسب خطأه من عمل حسن أو عقوبة زاجرة، وليس هذا الأمر خاصا بفئة من المسلمين، بل هي للمسلمين كافة؛ سواء من عامتهم أو خاصتهم، ومن أوائلهم أو أواخرهم إلى أن تقوم الساعة.
والأحاديث التي تدل على هذا المعنى كثيرة، من بينها ما جاء في صحيح مسلم مرفوعا: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».وفي حديث آخر، وهوحديث حسن: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
وهذه الأحاديث وما في معناها ليست دعوة إلى الخطأ والوقوع في المعاصي كما قد يفهمها بعض من لا علم له، وإنما تدل على واقعية الإسلام، وأنه دين واقعي، فلا بد من الوقوع في الخطأ بحكم بشرية الإنسان وأصل معدنه، أيا كان هذا الإنسان عالما أو متعلما، سياسيا أو قياديا، خطيبا أو إماما، من عامة المسلمين أو خاصتهم؛ فلا عصمة إلا للأنبياء والرسل.
وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن تكون هناكحلول شرعية لهذه الأخطاء، والمؤهل لإيجاد الحلول هو الشرع نفسه، ولكل خطأ حل يناسبه،فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الشريعة لتُصلح الواقع الفاسد، وأن يكون الواقع محكوما بالشريعة التي تضمن صلاحه.
ومن المغالطات التي يركب عليها العلمانيون توصيفهم للواقع المعيش الذي يعج بوجود ممارسات تخالف الشريعة والتي تتعلق بالزنا، فيذكرون أرقاما كبيرة لقضايا الزنا التي عُرضت على نظر القضاء، ويخبرون بعمليات الإجهاض في السر، والتي قاربت ـ حسب قولهم ـ إلى ألف إجهاض في اليوم، ووجود أمهات عازبات حسب اصطلاحهم…،ثم ادعاؤهم أنه ليس هناك حل لهذا الواقع إلا بالتطبيع معه، ورفع تجريم هذه الممارسات وإباحة العلاقة الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج وما ينتج عنها من حمل وغير ذلك.
وهذا الادعاء منهم ليس صحيحا؛ فإن الواقع الذي وجد عند نزول والوحي كان أشد مخالفة للشرع، ومن تلك المخالفات ما يتعلق بالزنا، وكانت صوره في المجتمع كثيرة ومتنوعة، وممارسته رضائية، ولم يكترث الشرع إلى هذه الكثرة ولم يلتفت إلى هذا الرضا، بلأمر المجتمع بأن يلتزم أحكام الشريعة الإسلامية باطنا وظاهرا لما يجلب هذا الالتزامله من مصالح وتدفع عنه من مفاسد، ومن خالف من المسلمين هذا الظاهر المطلوب أوخذ بجريرته.
وعليه، فإن الاعتراف بوجود الزنا في المجتمع وما ينتج عنه، ووجود ممارسة جنسية شاذة هو مدعى إلى تكثيف الجهود لتوعية العقول بخطورة الزنا واللواط والسحاق وما يسمى بالخيانة الزوجية، وتزكية النفوس بما يسمو به الإنسان عن معيشة الحيوان، وتشديد الأحكام الزاجرة بالتي هي أحسن بما يضمن رفع هذه المهلكات عن المجتمع، لا المطالبة بالتطبيع معتلك الممارسات كما فعلت جمعية “خارجات عن القانون وخارجون” وفرض أمر الواقع، ولا المطالبة برفع تجريمها كما تقدم بذلك البرلماني الجنساني، ولا المطالبة بالقيام بمراجعات وتغيير أحكام الشريعة بدعوى أن الواقع لا يُرفع كما طالب بذلك المتحول الممسوخ، بل الواقع الفاسد يرفع، وهي مهمة الإنسان لأجل عمارة الدنيا.