لكـل قــوم وارث د. محمد أبو الفتح

إن لله تعالى في ملكوته عاداتٍ لا تتخلف، وسننا لا تتبدل ولا تتحول، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب62)، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر43)، ومن هذه السنن التي ليس لها من تبديل ولا تحويل أنه تعالى جعل لكل رسول من قومه أعداءَ من المجرمين، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان31)، ومن صور معاداتهم لرسلهم الاستهزاءُ بهم وبما جاؤوا به قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنعام10)، وهؤلاء المستهزئون نوعان:
• النوع الأول:
نوع يجاهر بالكفر والعداوة، ككفار قريش وصناديدها في زمان النبوة، فإنهم كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وبأتباعه من المؤمنين، فمن استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما قصه الله علينا في قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} (الفرقان41)، ومن استهزائهم بما جاء به قولهم في القرآن: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (الأنفال31)، ومن استهزائهم بالمؤمنين ما وصفه الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} (المطففون 29-32).
• النوع الثاني من المستهزئين:
قوم يتظاهرون بالإسلام، وهم أجبن الفريقين، وأخبث الطائفتين، وهم المنافقون في عهد الرسالة وبعدها، الذين قال الله فيهم: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون 1-2).
وقد كانوا أيضا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وبمن اتبعه من المؤمنين، فإذا عوتبوا جاؤوا بعذر أقبح من ذنب، كما قال الله تعالى عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة65)، كما كانوا يستهزئون بالمؤمنين، ويصفونهم بالسفاهة، وقلة العقل، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} (البقرة13)، كما أنهم كانوا يطعنون فيهم، ويلمزونهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة79).
ولكل قوم من الطائفتين وارث من كل جيل وفي كل عصر، فمن الطائفة الأولى في عصرنا المستشرقون، وأصحاب الرسوم والأفلام المسيئة وبعض أهل الجرأة من العلمانيين العرب.
ومن الطائفة الثانية في عصرنا من ينتسب إلى الإسلام من المنافقين، وجبناءُ العَلمانيين العرب. فهؤلاء لجبنهم عن الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة، يستهزؤون بالسنة وأهلها، فهم أصحاب العقول الراجحة، والمتبعون للسنة رجعيون متخلفون، وهم أهل الأفكار المتنورة، والمتبعون للسنة متحجرون ظلاميون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، فما أشبه القوم بالقوم، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}، فتشابهت أقوالهم وأعمالهم، كشبه الغراب بالغراب.
ومن خبث هذه الطائفة الأخيرة أن أًصحابها يسلكون في الاستهزاء بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم أساليب ملتوية، لا تخفى على أولي العلم وذوي البصيرة.
ومن هذه الأساليب الخبيثة جدا، ومن الطرق القذرة التي أخذوها عن إخوانهم من المستشرقين: طعنُهم في مصادر السنة النبوية الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول، صحيحي البخاري ومسلم، وذلك لجبنهم عن الطعن في القرآن مباشرة، ولجبنهم عن الطعن في نبي الإسلام مواجهة، فلم يبق لهم إلا أن يطعنوا في الذين جمعوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ويستهزئوا بهم، ليُجَرِّؤوا العامة على علماء الأمة، وليشككوا الناس في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، بدعوى أنهم أصحاب العقول المتحررة، والأفكار المتنورة التي بلغ من نورانيتها أن تستدرك على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما علموا أو تجاهلوا أن الاستدراك عليه استدراك على من أرسله، فما هو إلا مبلغ عن الله، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور54)، وما علموا أو تجاهلوا أن الاستهزاء بالسنة التي جُمعت في الصحيحين وغيرهما استهزاء بصاحبها، فما هؤلاء المصنفون إلا مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امتثالا لقوله: “بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً” (البخاري).
فالرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، والبخاري ومسلم مبلغان عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فليحذر المتطاولون، وليعلموا أنهم قد ارتقوا مُرْتَقًى صعبا، ولْيَعُوا أنهم قد راموا مسلكا وَعِرا، وليُبشروا بما يسوؤهم فإن الأمة بعوامها قبل علمائها قد فَطِنت لمكرهم، وأنهم يريدون أن يفقد المسلمون ثقتهم فيما ينقل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ليتوصلوا بذلك إلى فصلهم عنه من غير أن يصطدموا بصخرة تعظيمهم له، وذلك عن طريق تشكيكهم في الوسائط بينهم وبينه، من أمثال البخاري ومسلم، لعلمهم أنهم لا بد لهم من هذه الوسائط التي تصلهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم لم يدركوا زمانه، ولِيُمْكِنهم بعد ذلك الفصل أن يسوقوهم سَوْقَ الأنعام إلى ما يريدون من الانحراف والضلال، ولكن هيهات هيهات أن يكون لهم ما أرادوا!!
فنقول لهم موجهين الخطاب إليهم: أسلوبكم هذا أسلوب قديم، وطريقتكم هذه طريقة أضحت مكشوفة للخاص والعام، وقد صار عند عامة الناس ما يكفي من الوعي بحقيقة أمركم، بدليل إفلاسكم في جميع الميادين، وتفرق الجموع عنكم، ونبذهم لكم نبذ النواة، بحمد الله وتوفيقه لهم.
ولهذا فإننا ندعوكم إلى ترك أساليب الجبناء الملتوية، ونحضكم على التحلي بالشجاعة الأدبية، ومواجهة المجتمع بحقيقة ما تضمرون نحو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام؛ ليهلك من هلك معكم على بينة، ويحيى من حَيِيَ على بينة.
هذه دعوتنا لهم، لكن هل يجرؤون… لا أظنهم يفعلون، فالقوم أجبن من ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *