بوتين ودوغين.. نموذج لعلاقة السياسي بالمثقف

هناك آراء مختلفة ومتباينة حول العلاقة بين السياسي والمثقف، فهناك من يجمع بين السياسي والمثقف ويعتبر السياسي مثقفا، وهناك من يفرق بينهما محاولا تفكيك المفاهيم والغوص في معاني ومهما.
كما يمكن أن نجد سياسيا ومثقفا، يزاوج بين التكوين السياسي والحمولة الثقافية، وقد يشكل بذلك الكمال بين أقرانه لكن الواقع والاحتكاك بصعوبات وتحديات التطبيق قد يجعل من الفشل حليفه، لأن التنظير شيء والممارسة والتطبيق شيء آخر، ومن ينجح يشكل الفارق والتميز.
فالدول الحديثة لم تأت بشيء جديد بل تبنت النمط القديم للعلاقة بين المثقف والسياسي، يكون فيها السياسي يزعم أنه ذكي ويملك السلطة والمال الكثير، والمثقف لا يملك شيئا سوى مجموعة من الأفكار لا يستطيع تسويقها ونشرها، فتتولد علاقة تبعية المثقف للسياسي الذي يغدق عليه من ماله ويمكنه من شيء من سلطته.
وقد قال ابن خلدون قديما، لقد استُخدموا دوماً نظير أعطيات السلطة بدءاً من الشاعر المداح حتى الناصح كاتب الآداب السلطانية. وأفضلهم نأى بنفسه عن خدمة السلطان فعاش فقيراً بينما رفل المتزلفون في الحرير.
فتضافر فكر المثقف وعقلية السياسي وسلطته يولدان قوة كبيرة، يمكن توظيفها لخدمة المجتمع، والرقي بأوضاع أفراده.
لكن القطيعة بين المثقف والسياسي، أو الصراع بينهما والنزاع تجعل السياسي يبحث عن مصالحه ومكتسباته الشخصية الغارقة في النرجسية، والمثقف في جزيرة أفكاره معزول عن محيطه وعالمه هائم بين أفكاره معلق بين السماء والأرض.
وقد نهج الغرب نهجا يتكامل فيه دور السياسي مع المثقف في شكل مراكز دراسات وجامعات، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل حيث يعتمد السياسي في تكوين قراراته السياسية على مراكز الأبحاث، لتكوين رؤية للسياسي ليكون قراره على مستوى من النضج ومبني على دراسة مستوفية للواقع المستهدف.
كما نجد أن علاقة بوتين “السياسي” ودوغين “المثقف” اتخذت منحى مغاير لما عليه حال الغرب، فبوتين يعتمد على مثقف فرد له نفوذ واسع وأتباع في روسيا، ويعتبر نفسه المنظر وبوتين المطبق، ويطمح أن يجعل من بوتين قيصرا جديدا في روسيا.
يقول دوغين: “هناك بوتين وهناك أنا وهناك الشعب هناك أيضا نخبة فالنخبة هي ليبرالية النخبة تسعى لعرقلة مثل هذا التطور”، حاشرا لأعداء نظرياته في زاوية العداء مع أغلب الكون الروسي، حتى يتم عزلها وتهميشها، ويخلى له الجو مع بوتين لتنزيل نظرياته على أرض الواقع.
وقد طغت رؤية دوغين ونظرية السياسية الرابعة على توجيهات وخطابات بوتين خلال عقدين من توليه حكم روسيا، كما بدت واضحة في كلمة بوتين عام 2007 في مؤتمر ميونيخ، حيث طالب بعالم أكثر عدالة ومساواة، فيه فرص متكافئة لجميع البشر، من غير زيف ما يمكن أن يطلق عليه “القطب الواحد المتشدق بالنظام العالمي الوهمي الجديد”.
ويظهر أثر هذه النظرية في مطالبات بوتين بعالم متعدد الأقطاب، فيه الحضارات تتحاور وتتجاور، لا تتصارع كما نظر لذلك صموئيل هنتنغتون.
ووصلت علاقة بوتين السياسي ودوغين المثقف إلى حد التماهي والتماثل، والذوبان بين بطش السلطة وأفكار العقل، لاستئصال النزعة الغربية، التي يشكل حاملوها طابورا خامسا يقاوم إصلاحات بوتين التي استلهمها من أفكار دوغين وتنظيراته، هذه العلاقة أصبح العالم يلتمس خطورتها، في واقع أصبحت فيه روسيا بوتين السياسي تستخدم القوة لفرض نظريات دوغين المثقف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *