في الوقت الذي بنت فيه “إسرائيل” دولتها على أساس من إيمانها بالتوراة المحرفة، وجعلت عقيدتها الدينية هي المحرك الفكري الذي تنطلق منه وتعتز بباطلها أشد الاعتزاز، وتعلن بذلك أمام مسمع من العالم كله، ترانا على المستوى الرسمي -نحن الذين هزمتنا إسرائيل بمثل هذه العقيدة العنصرية الباطلة، وبمثل هذا الزور المفضوح- ضائعين تائهين نتسول الأفكار والمذاهب من عتبات الشرق والغرب، ونلبس المرقَّعات التي يفصلها لنا أعداؤنا الذين لا يريدون لنا خيراً، فنبدو كمجموعات من المتسولين الأذلاء، فاقدي الحس والكرامة.
إن الوضع الذليل الذي وصلنا إليه ليس وليد الساعة، بل هو تراكمات لكثير من الأوضاع الخاطئة، ونتيجة طبيعية للانحرافات الخطيرة التي استشرت في الأمة، وتحقيق للسنة الربانية: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” (أخرجه أ حمد، ح/4593، 4765، و أبو داود، ح/3003)
العودة إلى الإسلام في مواجهة التسلط اليهودي
إن التسلط والعلو الذي بلغه اليهود لم يبلغوه بين يوم وليلة، بل عملوا الكثير من أجله، وساندهم في ذلك أعوان الشياطين.
ومن ثم فإن تغيير هذه الأوضاع لن يتم بعصا سحرية، بل بطريق طويل وشاق لبناء مقومات النصر والتمكين التي ضيعناها على مدى أكثر من قرن، بل ولا تزال طائفة كبيرة من بني جلدتنا تُعمل معاولها في البقية الباقية منها.
إن اجتراء اليهود على الشعب الفلسطيني وعجز المسلمين عن نصرتهم إنما سببه ما آلت إليه أوضاعنا بعد إقصاء حكم الشريعة، فلماذا نعالج العَرَض ونترك المرض؟ فلا بد من معالجة أصل المرض، دون اكتفاء بالعرض.
لقد أفرزت الأحداث الأخيرة مستجدات كثيرة ومكاسب جليلة ما كانت لتوجد لولا هذه الأحداث التي قدرها الله، وهي تحتاج من المصلحين والدعاة جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، ولكن رغم هذه الصورة القاتمة ورغم الحرب التي يعلنها على الإسلام أعداؤه في الداخل والخارج، ورغم الاحتلال الصهيوني الذي يحاول أن يلغي هوية الشعب الفلسطيني وينكر عليه أي انتماء فإننا نجد هذا الشعب أكثر ما يكون تمسكاً بحقوقه، وكذلك فإن بوادر رجوعه إلى الإسلام يحس بها كل من يرصد الاتجاهات الفكرية التي تحرك هذا الشعب.
إن العودة إلى الإسلام تتجلى في الإحساس العميق الذي أخذ يشعر به الجيل الجديد من أبناء فلسطين خاصة والمسلمين عامة، من أن له هوية قد منع من التعبير عنها لمدة طويلة، وله عقيدة تمده بكل عوامل الصمود في وجه التحديات، وأن هذه العقيدة الصحيحة هي العقيدة الوحيدة القادرة على التصدي للعدو الذي فشلت في صده كل النظريات والأيديولوجيات والأفكار التي قوبل بها حتى الآن.
هذه العقيدة لا تعوزها الاستدلالات الملتوية، ولا الدعاية المركزة من أجل غرسها وتحبيب الناس بها، بل هي مركوزة في ضمير هذا الشعب وفي وعيه الباطن، والتفاتة بسيطة إلى الماضي كي يكتشف أبسط الناس ثقافة في فلسطين وفي غيرها أن هذه البلاد قد تعرضت لهجوم صليبي استيطاني شرس في السابق، وأنها وقعت ضحية الفرقة والتناحر التي ضربت العالم الإسلامي، وبعد مدة طويلة عندما استفاق المسلمون وأخذوا بأسباب النصر من الرجوع إلى الله والإعداد الجاد طردوا الصليبيين شرَّ طردة، واقتلعوهم من هذه الأرض التي دنسوها لفترة ليست بالقصيرة.
والرجل العادي حينما يتذكر ذلك يتذكر ببساطة أن الجحافل التي نظفت فلسطين وباقي بلاد الشام من رجس الصليبيين كانت تفعل ذلك باسم الله، وتحت راية الإسلام، وتتخذ من مصطلحاته زادها العقدي والتوجيهي من مثل الجهاد والمرابطة، والذود عن حياض الإسلام، وتطهير مسرى النبي ، وإعادة الأرض التي بارك الله فيها إلى حظيرة ديار الإسلام.. وأن سنين طويلة منذ أوائل هذا القرن، من التبعية للغرب ولرموزه، ومن الجري وراء سراب الشعارات التي يرفعها أعداء الإسلام من شتى الألوان والاتجاهات، يستغلون ويخدعون بها أبناء المسلمين، لم تورثنا إلا ذلاً على ذلك، ولم نجن من وراء سرابها إلا الخيبة والخذلان على كل صعيد.
كل ذلك جعل أهل الحق يحاولون نفض الغبار والتراب الذي أهاله أهل الباطل عليه، مما نقرأه أو نسمع عن أنبائه في داخل فلسطين المحتلة.
نصرتنا لله شرط نصرته وتمكينه لنا
لقد جعل الله شرط نصرتنا وتمكيننا وأمننا أن نعبده لا نشرك به شيئاً، فال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً” وأن ننصره بنصرة شرعه، وحين لا نقوم بالشرط حق قيامه لا يبالي الله بنا، ومجتمعات المسلمين اليوم تعج بصور من الشرك الأكبر في الاعتقاد والعمل وتحكيم القوانين الوضعية، وانتشار واسع للفسق والفجور، مع الأسف الشديد.
وينبغي أن نذكر هنا أن التعادل في التفوق التقني بين المسلمين وأعدائهم ليس شرطاً في النصر، فلا يخوفنا الشيطان بكثرة سلاح العدو وتنوعه وتعقُّد تقنيته وتحكُّمه في الإعلام، ودعمه من قبل القوى الشر الكبرى، فنرى أن إدراك ذلك من المحال، وأن البون شاسع، فنؤتى من قِبَل أنفسنا.
إن الله جعل شرط النصر واحداً فقط، وهو أن ننصره، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ”، أما عن العتاد والعدة فقال: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ “، فالتكافؤ في الإمكانات المادية والبشرية ليس شرطاً للنصر، وشواهد التاريخ من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فترة قريبة أوضح من أن تذكر .
تبقى هناك كلمة أخيرة حول هذا البعث الإسلامي الذي يبشر بخير وهو الجدير منا بكل مساندة مادية ومعنوية، وينبغي التنويه به وتسديد طريقه نحو سلامة التصور ووضوح الهدف.
أما سلامة التصور فتتلخص في اتخاذ الإسلام القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سلفنا الصالح والانطلاق من هذا الأساس الواضح لفهم الإسلام، والبعد كل البعد عن ما يخالف ذلك من المناهج والسبل، وكذلك عدم الانخداع بكثير ممن يحملون الراية الإسلامية ليغطوا بها كراهيتهم الدفينة للإسلام وحقدهم القديم على العرب -حملة الإسلام للعالمين- كالشعوبيين والباطنيين الذين يفوقون في خطرهم اليهود والنصارى والملاحدة لأن هؤلاء كراهيتهم معلنة ممكن اتقاؤها، أما أولئك فعداوتهم باطنة قد تخفى أو تغيب عن كثير من ذوى النوايا الطيبة.
وها هنا مسألة جديرة جداً بالتأمل، وكثيراً ما تنسى في غمرة الأحداث، وهي أن الله خلقنا ليبتلينا، والأحداث التي تمرُّ في حياة الفرد هي مفردات هذا الابتلاء، وسيقف كل منا بين يدي ربه للحساب، وسيسأله عن التزامه بدين الله وتطبيقه لشرعه فيما كان في استطاعته.
ولن ينفعه أن يكون عاش في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مفرط في دين الله، كما لن يضره أن يكون عاش في زمن “هولاكو” وهو مقيم على شرع الله، بل إن أجره على التزامه بدين الله في الزمن الصعب أعظم، ولن يسألك الله: لماذا لم تذهب إلى فلسطين لنصرة إخوانك؟ وأنت لا تجد إلى ذلك سبيلاً.
ولكنه سيسألك: عما افترضه وأوجبه عليك.
فلا فائدة في كثير من الممارسات التي يقوم بها أفراد المسلمين تجاه الأحداث، وإنما عليهم أن يقوموا بعمل إيجابي يحتجون به بين يدي ربهم.
إن بلالاً كان يعذب، ويُلقى على الرمال الملتهبة عاري الظهر، ويوضع الحجر على بطنه، والمسلمون القلائل لا يستطيعون نصره، لأنهم أضعف من ذلك، وابن مسعود يجهر بالقرآن ليغيظ الكفار فينال الكفار منه ضرباً وشتماً، ولا يتحرك لنصرته أحد، بل يوضع على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا الجزور وهو ساجد، فلا يملك المسلمون حينذاك حولاً ولا قوة لدفع ذلك عنه، ويأتي خباب بن الأرت يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما يلاقونه من الكفار ويستحثه أن يدعو لهم ويستنصر لهم، لا أكثر، ثم تمر السنون والصحابة يقيمون على شرع الله، يعبدون الله لا يشركون به شيئاً، يحققون شرط التمكين حتى هزموا المشركين شر هزيمة في بدر، ورقى ابن مسعود على صدر أبي جهل، ثم تمر سنون أخرى فيفتح الله مكة ولا يبقى فيها كافر.
فلا بد أن نستثمر الأحداث الراهنة الاستثمار الأمثل من أجل عودة الناس إلى دينهم بالمفهوم الشامل وهذا تتضافر عليه عدة عوامل، منها جهود المصلحين والدعاة المنتظرة، ومنها الأحداث التي يجريها الله في الناس والكون، ويجب ألاَّ ننسى أن بعض الأحداث أحياناً هي ثمرة سنين من الدعوة والوعظ والتعليم .
فنسأل الله لإخواننا في فلسطين المحتلة السداد والثبات والرشاد بمنه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه.