الترويج للخمور تدمير للطاقات وتخريب للاقتصاد واعتداء على الشرعية الأستاذ إدريس كرم

هل المغرب مقبل على جائحة وطنية تسمى الإدمان على الخمور، خاصة بعد توسع انتشار الأسواق الممتازة التي تقرب المنتوج من المستهلكين، وتزين لهم ذلك؟

إن المتتبع للإحصاءات المنشورة على صفحات الجرائد ومراكز البحث يصاب بالدهشة من وتيرة تنامي معدلات استهلاك الخمور بالمغرب، وحجم الانتشار في سائر ربوعه، وما ينجم عن ذلك من فظاعات جرمية بمناسبة وبدونها، تتبلور في حوادث السير التي يقول المختصون إن الخمر وصلت إلى المرتبة الثانية في سلم العوامل المسببة للحوادث، وأن 16% من الجرائم المعروضة على المحاكم بالمدن سنة 2007م نتيجة للسكر، وأن دراسة ميدانية أجريت بالدار البيضاء أفادت أن 10.2% من الساكنة مستهلكون للخمور، وأن 6.4% منهم وصلوا إلى الإدمان، وأن وزارة الصناعة والتجارة تقول بأن ما ينفق على الخمر بلغ 436 مليون درهم سنويا، وأن المستورد منها حسب مكتب الصرف ارتفع إلى ما يربو على 100% في أقل من سنة بحيث بلغ 16.22 ألف طن، مقابل 8.23 ألف طن سنة 2008م بقيمة تجاوزت 355.92 مليون درهم أي أكثر من التوابل التي لا يستغنى عنها في الطبخ التي بلغ ارتفاعها حسب المصدر 50% والسكر 51% والشاي والقهوة 6%، مما يبين الخطر القادم الذي يمثله الخمر على اقتصاد البلاد وساكنتها.
إن هذا المسار يقود البلاد إلى تدمير حقيقي بقدراته الصحية، وتخريب اقتصادها، وذلك بالرفع من عدد المدمنين، وتعميق التبعية إلى الخارج في مادة ضارة وفتاكة، ناهيك عن المدمنين الذين سيتحولون إلى مرضى يطالب لهم بالعلاج والدواء، وأماكن الاستشفاء.
إن الرفع من زيادة نقط البيع وتنويعها بتنويع معروضات الخمر تخرق الشرعية القانونية وسيادة الأمة على مجالها الترابي والاحترام الواجب لأنظمتها وضوابطها الشرعية والدينية، بالرغم من أن التقنينات الموجودة ترقى إلى الحقبة الاستعمارية التي لم يكن للمغرب يد في وضعها، والتي رغم أنها فتحت باب تقنين الاتجار في الخمور وتضريبها، إلا أنها أمام الضغط الوطني والرفض السلطاني شددت من العقوبات على المخالفين لضابطها الصادر سنة 1913م الذي سبق أن عرضنا بعض فصوله في العدد السابق، وضابط 1914م المنشور بالجريدة الرسمية العدد74:
“يعلم من كتابنا هذا حيث أنه كان من اللازم إعمال المتعين في عدم انتشار الإدمان على شرب المسكرات في إيالتنا الشريفة، وكان من الضروري إتمام الشروط المتعلقة بهذا الغرض، والتي تضمنها ظهيرنا المؤرخ في 15 يناير 1913م، وكذا القرار الوزيري المؤرخ في 27 يناير 1913م.
الفصل الأول: كل من وجد وهو في حالة السكر الظاهر في الشوارع والطرقات والساحات العمومية، والفنادق والحانات وغيرها، والمحلات العمومية، يعاقب بذعيرة تتراوح بين خمسين فرانك إلى ألفين فرانك، وبالسجن من خمسة عشر يوما إلى ستة أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
الفصل الثاني: كل من تكرر منه الذنب قبل مضي ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، يحكم عليه بأقصى العقاب المذكور، ويمكن أيضا مضاعفة هذا العقاب.
الفصل الرابع: تطبق العقوبات المشار لها في الفصل الثالث على الذين يبيعون عمدا روح الخمر أو مشروبات كحولية للمواطنين وللعساكر..
الفصل الثامن: يكلف كل ضابط من ضباط البوليس العدلي، وكل عون محلف، أو عون من القوة العمومية، بمراقبة المخالفات المذكورة بهذا الظهير، ويسلم حالا تقريرا للمحكمة التي لها النظر… “انتهى.
وبعد الاستقلال أصدرت وزارة العدل بتاريخ: 19 شتنبر 1958م منشورا حول منع المسكرات موجها إلى وكلاء الدولة وقضاتها، جاء فيه: “لقد قررت الحكومة الشروع في محاربة لا هوادة فيها للمسكرات التي تخرق القوانين السماوية وكل قانون إيجابي، ويلزم من الآن تطبيق التدابير الضرورية، لمحاربة هذه البلية، ذات النتائج المضرة للحالة الصحية والاقتصادية للبلاد، ويحتوي القانون الجاري به العمل الآن على بعض النصوص التي تنظم إنتاج وتجارة المسكرات من جهة، ورخص الاتجار فيها وقمع لتناولها والسكر علانية من جهة أخرى، وإني ألفت نظركم إلى هذه القوانين، وأرجو منكم اتخاذ جميع الترتيبات حتى تطبق بمنتهى الصرامة، وكل مخالفة للقانون تقع تحت تأثير الخمر يجب أن تعاقب بشدة، وذلك لأن حالة السكر تزيد خطورة اقتراف أي مخالفة للقانون، ويجب أن يعاقب السكر العلني دون أي تسامح، وذلك لأنه خطر على المجتمع، ونلفت انتباه قضاة النيابات العامة إلى ظهير 1916م المتعلق بالمسكرات الذي (ينص على معاقبة كل من ثبت عليه أي تساهل في تطبيقه)..، ويجب تطبيق المادة 3 من نفس القرار بكل صرامة، وهذه المادة تحرم على كل مسلم الاستفادة من ترويج الخمور أو شربها، وتنص كذلك على معاقبة كل من باع خمورا للمسلمين، وتتمثل هذه العقوبات في السجن والغرامة، وكذلك الإغلاق المؤقت أو النهائي للمؤسسة، ويجب على رؤساء النيابات العامة، في حالة إذا ما أظهرت المحاكم الكثير من التسامح أن يستأنفوا الأحكام أو القرارات التي تظهر لهم مشوبة بالضعف وعدم الصرامة…
وفي 26 يوليوز 1967م صدر قرار للمدير العام للديوان الملكي أعطى الحق للسلطة الإدارية المحلية (بعد استشارة المصالح المحلية للشرطة أو الدرك) في الترخيص بالاتجار في المشروبات الكحولية، وسحب تلك الرخصة من طرف نفس الجهة (في أي وقت وآن (..) إما على إثر إدانة أو بموجب تدبير تقتضيه المحافظة على النظام أو الأمن العمومي)، والظاهر أن المسطرة ما زالت جارية بدليل أن المصالح المختصة حسب تصريح الداخلية قد سحبت 18 رخصة سنة 2007م بصفة نهائية اعتمادا على نفس الضابط، فهل أسواق الخمور الممتازة خارج القانون؟
وتجدر الإشارة إلى أن الملك الحسن الثاني رحمه الله بعث مع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى مؤتمر رابطة علماء المغرب المنعقد بالدار البيضاء سنة 1971م بأن الملك قرر منع بيع الخمر في الأحياء الإسلامية وتداولها بين المسلمين في جميع أنحاء المملكة، وضمن ذلك في برقية الولاء التي رفعها المؤتمر إلى جلالته، بيد أن وزير الداخلية السيء الذكر اعترض تطبيق ذلك حسب ما أخبر به الأمين العام الراحل عبد الله كنون العلماء في مؤتمر الرابطة الخامس المنعقد بتطوان سنة 1975م معلقا على ذلك بأن الله قد انتقم منه وفضحه، ولقي مصرعه على أسوأ حال.
إن تشجيع إسكار المغاربة وتسهيل حصولهم على الخمور المختلفة، وتسخير أموالهم في جلبها وشرائها دون حسيب أو رقيب بقدر ما يؤدي كما أسلفنا أدوارا خطيرة في تدمير الطاقات الشابة، وتعطيل قدرتها الإبداعية والإنتاجية، وزيادة التوترات داخل المجتمع، وتفكيك مؤسساته، وإرباك مخططاته الإنمائية، يؤدي أيضا إلى الارتهان الخارجي لشراء بضاعة تعود عليه بأوخم العواقب، ناهيك على ضرب مؤسساته في الصميم، عن طريق تسفيه قوانينه، وخلخلة نظمه الاجتماعية وممارساته الدينية، وتعريضها للتبخيس والتناقض ليسهل تدميرها، عروة عروة، ويفتح المجال أمام مزيد من الانحرافات وردود الأفعال الغاضبة، إذ مقابل التسيب لا يظهر إلا التشدد، وكلاهما خطر على البلاد، ومثار فتنة للعباد، ناهيك عن عدم إيلاء الاحترام الواجب لما يصدر عن إمارة المؤمنين، مما يعتبر مسا بحرمات الدين الإسلامي وضوابطه التي جاءت الظهائر الشريفة لضبط ما يمكن أن يتماس معها ومع توجيهاتها.
إن مثل هذه السلوكات التبخيسية، المتمثلة في النداءات اللامسؤولة إلى تحدي تلك الضوابط الشرعية والقواعد المرعية، المنفلتة التي بدأت تظهر هنا وهناك في الوقت الذي يتشدد العالم ضد ما هو مخدر يجعل الباحث يفكر في دواعي هاته المواقف النشاز التي ربما هي رجع صدى متأخر، ونزوع مرضي لما كان يحاك ضد المؤسسة الملكية في زمن الصراعات التقاطبية، تلبس لباس الحق والحرية والتسامح مع المخالف، دون أن تلزم هذا المخالف بأن يحترم الغالبية العظمى، وما تعارفت عليه من قواعد وضوابط تضمن حق الجميع في العيش بسلام، وأن المطالبة برفع القيود عن الخمر يعتبر تحديا سافرا من أقلية قليلة تريد فرض رأيها على أمة كبيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *