“اقتلوا نعثل فقد كفر”!
ادعى معد ملف أسبوعية الأيام أن عثمان رضي الله عنه: “كانوا ينادونه بنعثل تحقيرا وتصغيرا.. وفي ذلك حكاية يرويها بعض الدارسين عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ص التي قالت: اقتلوا نعثل فقد فجر؛ اقتلوا نعثل فقد كفر”.
والحق أن موقف أم المؤمنين اتجاه الخليفة عثمان رضي الله عنه كان على خلاف ذلك بتاتا؛ فعائشة رضي الله عنها كانت تكنّ لعثمان كل الاحترام والتقدير، وتدرك جيدا عظيم منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيف لا وهي التي روت لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فضائل ثابتة في حق ذي النورين؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: “ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة” مسلم 2401.
وأما بخصوص الرواية المنسوبة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها “اقتلوا نعثلا فقد كفر”؛ (والنعثل كما قال ابن الأثير في النهاية: قيل هو تشبيه برجل من مِصر كان طويل اللحية اسمُه نَعْثَل، وقيل: النَّعْثَل: الشيخ الأحْمَقُ وذَكَرُ الضِباع).
هذه الرواية أوردها ابن أبي الحديد المعتزلي الرافضي في شرح نهج البلاغة؛ من أجل الطعن في الخليفة الراشد عثمان؛ وقد جاءت من طريق سيف بن عمر.
وسيف هذا ذكره الدار قطني في الضعفاء والمتروكين.
قال محققه: سيف بن عمر الضبي الأسيدي الكوفي.. ضعيف باتفاق.
وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث.
وقال ابن أبي حاتم: متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي. (ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 4/278).
وقال النسائي: كذاب.
وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، قال وقالوا: إنه كان يضع الحديث.
وقال الدارقطني : متروك. (انظر: تهذيب التهذيب 4/296 لابن حجر، المغني في الضعفاء للذهبي 1/392 وميزان الاعتدال 2/255).
فالرواية التي نسبها المفتري إلى بعض “الدارسين”!! لا أساس لها من الصحة؛ ولو كان من نقل عنهم فعلا دارسين لما نسبوا تلك الرواية الباطلة إلى أم المؤمنين أصلا؛ ولأخضعوها إلى قواعد البحث العلمي قبل أن ينشروها ويبثوها في الناس.
لماذا أحرق عثمان رضي الله باقي المصاحف؟
قال المفتري: (اعتبر البعض أن إحراق نسخ من القرآن كان ضروريا لتوحيد دولة المسلمين حول قرآن واحد؛ فيما اعتبر البعض الآخر أن عثمان تحرك بخلفية سياسية؛ وذلك للقضاء على السلطة السياسية التي يتمتع بها بعض قراء القرآن في عدد من البلدان التي كان عثمان يفقد فيها بعض سلطاته).
فالغاية من إحراق عثمان لباقي المصاحف لم تكن سياسية كما نقل كاتب الأيام؛ بل كانت بسبب اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيديهم؛ فخاف عليهم الفتنة والاختلاف والتنازع في كتاب الله تعالى.
ففي صحيح البخاري (الفتح 9/11): أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف لنسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط من القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق.
ولم يقدم عثمان رضي الله عنه على هذا العمل إلا بعد أن استشار باقي الصحابة رضي الله عنهم؛ فعن سُويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: أيها الناس! الله الله، إياكم والغلوّ في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف، فوالله ما أحرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، جمعنا فقال: ما تقولون في هذه القراءة التي قد اختلف فيها الناس، يلقي الرجلُ الرجلَ فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذه شبيه بالكفر، فقلنا: ما الرأي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بَعدَكُم أشدّ اختلافاً. فقلنا: نعم ما رأيت، فأرسل إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، فقال: يكتب أحدكما، ويُملي الآخر، فإذا اختلفتما في شيء فارفعاه إليّ، فكتب أحدكما وأملَّ الآخر، فما اختلفا في شيء من كتاب الله إلا في سورة البقرة، فقال أحدهما: التابوه بالهاء، وقال الآخر: التابوت بالتاء، فرفعاه إلى عثمان رضي الله عنه فقال: التابوت.
قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله لو وَليتُ مثل الذي وَلي لصنعتُ مثل الذي صنع.
قال: فقال القوم لسويد: الله الذي لا إله إلا هو لسمعتُ هذا من علي؟
قال: الله الذي لا إله إلا هو لسمعتُ هذا من علي. (التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان لابن أبي بكر المالقي الأندلسي ص:63، وانظر كتاب المصاحف لابن أبي داود).
فلا داعي إلى إسقاط المنهج والتحليل الماركسي في دراسة التاريخ على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن صحابته ما كانوا يتنافسون على دنيا فانية ليبيعوا بها آخرتهم؛ وإنما كان يحدوهم في كل أعمالهم إرادة وجه الله والدار الآخرة؛ سواء أصابوا فيما أقدموا عليه من اجتهاد أم أخطؤوا؛ وعلى أي حال فتوحيد الناس على مصحف واحد وإحراق باقي المصاحف الأخرى من حسنات أمير المؤمنين عثمان التي وافقه المسلمون عليها، وكانت مُكَمِّلة لجمع أبي بكر رضي الله عنه من قبله. فقد ابن أبي داوود في المصاحف عن مصعب بن سعد قال: “أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُتَوَافِرِينَ حِينَ حَرَّقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ”.
قاتل عثمان وموقف الصحابة من قتله
وزعم صحفي الأيام أن قريشا غضبت على عثمان و(هاجمته؛ بل إن المسلمين حاصروه أربعين يوما قبل أن يصيبه محمد بن أبي بكر أخ عائشة برمح أرداه قتيلا.. ظل جثمان أمير المؤمنين عثمان بدون دفن لمدة يومين حيث حاول أهله في اليوم الثالث دفنه فضربهم المسلمون؛ وأقسموا ألا يدفن في مقابرهم؛ ليدفن أخيرا في مقابر اليهود.. هذا هو عثمان بن عفان كما تقدمه بعض كتب التاريخ الإسلامي).
وهذا كلام مليء بالكذب والمغالطات ذلك أن الذين حاصروا عثمان جماعة مارقة قارب عددهم الألفين، اختلفت أغراضهم وأهواؤهم؛ غير أنهم اتفقوا جميعاً على عزله أولاً ثم على قتله بعد ذلك؛ ولم يحاصره “المسلمون”!! كما حاول الكاتب أن يلبس على القراء؛ وأما محمد بن بكر فقد أخذ على عثمان وخرج عليه، والصحيح أنه لم يقتله ولم يشترك في قتله، بل إنه لما دخل على عثمان في الدار ذكره عثمان بمكانته من أبيه، فخرج نادماً على فعله.
قال ابن كثير عقب الرواية التي اعتمد عليها كاتب الأيام نفسها: “وقد ذكرت بعض الروايات أن محمد بن أبي بكر شارك في قتل عثمان أو قتله.. والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها، فتندم من ذلك وغطى وجهه ورجع، وحاجز دونه فلم يقدر، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً” اهـ. وفي رواية لابن كثير أيضا: “فتركه وانصرف مستحيياً نادماً، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلاً فدخلوا، وخرج محمد راجعاً”.
قال ابن عبد البر المالكي: وقيل إن محمدًا شارك في دم عثمان رضي الله عنه، وقد نفى جماعة من أهل العلم والخير أنه شارك في دمه.. (الاستيعاب بهامش الإصابة 10/21)
والذين باشروا قتله هم كنانة بن بشر التجيبي وهو الذي ذبحه، وقيل سودان بن حمران السكوني بعد أن طعنه قتيرة السكوني تسع طعنات من خنجر، وكان الذي ابتدأ ضربه -بعد أن هاب الناس ذلك لكونه كان يقرأ القرآن- هو الغافقي بن حرب العكي، ضربه بالسيف وركل المصحف برجله فسقط في حجره، وسقطت قطرة دم على قوله تعالى: “فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ” (البقرة:137) وهؤلاء المذكورين كانوا من أهل مصر والبصرة والكوفة؛ ولم يشارك صحابي واحد في قتله.
وقد حزن علي كثيرا لهذا المصاب؛ فقال الإمام الذهبي رحمه الله في السير: (وبلغ علياً وطلحة بن الزبير الخبر، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم، ودخلوا فرأوه مذبوحاً، وقال علي: كيف قتل وأنتم على الباب؟!! ولطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله) (سير أعلام النبلاء سيرة الخلفاء الراشدين: ص: 209).
وقد قال علي رضي الله عنه: “اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة (انظر: فتح الباري 7/55، مسلم بشرح النووي 15/169) وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل الأرض لم يدفن بعد. (عثمان بن عفان لابن عساكر ص462، مختصر تاريخ دمشق 16/252، البداية والنهاية 8/193).
وقال ابن عباس: لو أجمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط. (عثمان لابن عساكر 459، مختصر تاريخ دمشق 16/250).
وقد منع عثمان رضي الله عنه باقي الصحابة من الدفاع وأمرهم بعدم القتال، وأما موضع قبره فلا خلاف -كما قال ابن كثير في البداية النهاية- في أنه دفن بحش كوكب شرقي البقيع، والحَش: البستان. وحَش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة. وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفًا من الفتنة.
قال ابن كثير: (ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج، وقيل بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم، فخرجوا به في نفر قليل من الصحابة، وذكر منهم طلحة والزبير وعلي).
فلماذا لم يذكر كاتب الأيام رأي ابن كثير وما نصت عليه الروايات المحققة في قاتل عثمان؛ علما أنه ادعى نقل رواية ابن كثير؟
ولماذا لم ينقل تبرأة عثمان التي أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة علما أن الكاتب عزى لها أيضا؟
لماذا لم يعتمد على الكُتب التي فصلت القول في مقتل عثمان رضي الله عنه وفي الفتنة الكبرى وحققت رواياتها؛ ككتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي المالكي وغيره؛ ألعجزه عن الاطلاع على مثل هذه المراجع واقتصاره على محرك البحث “جوجل”؛ أم لغاية في نفس يعقوب؟