شكّلت المذكرات الإصلاحية للعلماء والفقهاء والمصلحين بالمغرب إحدى أهم الوسائل البارزة لمساهمة العلماء في إصلاح شؤون البلاد والعباد خلال القرن 19 و20، بسبب ما كان يهدد المغرب من غزو أجنبي جارف وفتن داخلية تتربص بوحدة واستقرار المغرب.
وبرز في هذا المجال رجال من طينة الإصلاحيين الكبار كعبد الكريم مراد، والحاج علي زنبير السلاوي، وأعضاء جماعة لسان المغرب، مرورا بالعارف بأحوال المغرب أحمد الناصري، وظهرت مشاريع إصلاحية مبكرة، نبهت إلى ما كان عليه حال المغرب وما يلزمه لتجاوز الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي كبلته منذ سنوات.
جسد الحاج علي زنبير السلاوي اليقظة المغربية في مرحلة دقيقة من تاريخ الوطن، إذ أقدم على صياغة مشاريع إصلاحية حيث بادر في زمن مبكر إلى تقديم مذكرة إصلاح سياسي ودستوري اختار لها توقيتا وعنوانا دالا “حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال“، ويعود الفضل الكبير بعد الله تعالى في تعريف المغاربة والباحثين بمشروع المذكرة الإصلاحية هذه؛ للمؤرخ المقتدر محمد المنوني رحمه الله، وذلك في مقال من عشر صفحات نشره في مجلة “دار النيابة“ سنة 1984.
مذكرة الإصلاح التي تقدم بها السيد علي زنيبر جاءت في توقيت دال وصيغت في عبارة أكثر دلالة، والسياق حاكم كما يقال، فقد أثرت مخرجات معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 في الرأي العام الوطني، وفي النخبة المثقفة، وكانت ردود الأفعال متفاوتة إزاءها، وإزاء الإملاءات الخارجية، إضافة لسياق الضغط العسكري على المغرب، الذي دشن بقصف واحتلال شرقه، ثم مدينة الدار البيضاء، والشروع في التضييق على السلطان تارة، وإغراءه تارة أخرى[1].
جاء مشروع المذكرة الإصلاحية في (31) بندا، ردا على الدعاوى الإصلاحية الأوربية، وجوابا ناقدا على مخرجات الجزيرة الخضراء ومساعي الاحتلال المباشر للمغرب، وانصبت المذكرة على التذكير بضرورة القيام بإصلاح سياسي يحفظ سيادة واستقلال البلاد، وتعيين أعيان لتحرير الدستور، والدعوة للمساواة القانونية بين الرعية، وإصدار العفو العام عن الثائرين والخارجين على السلطان والمخالفين في الرأي. أما دلالة الصياغة فيلخصها العنوان الواضح القاصد “حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال”.
نبهت المذكرات الإصلاحية التي ساهم فيها وصاغها العلماء والفقهاء إلى ما كان عليه حال المغرب وما يلزمه لتجاوز الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي كبلته منذ سنوات، منها:
مشروع السيد عبد الله بن سعيد الذي قدمه لسلطان المغرب سنة 1906 مركزا فيه على وسائل ومسائل وثوابت وأركان لا يقوم الإصلاح دونها، أبرزها: هوية الأمة باعتبارها أساس كل إصلاح، العدل ركن كل إصلاح، اللامركزية ودورها في الإصلاح.
مشروع جماعة لسان المغرب المرفوع إلى السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1908، الذي عد في طليعة بواكير مشاريع الدساتير[2] المتقدمة في تاريخ المغرب الراهن، لتركيزه على جوانب فات على المذكرات الإصلاحية السابقة الانتباه إليها، مما جعله مشروعا متميزا في زمنه ومطالبه وغاياته، والتقاءه مع سابقيه على أرضية قضايا أو عناصر أساسية كـ: تأكيده على كون الهوية الإسلامية هي أساس كل إصلاح، وحضه السلطان تقريب الكفاءات العلمية وتوليتها المناصب السياسية وتدبير الشأن العام، واشتراطاته المتنورة في نوعية وطبيعة من سيحملون عضوية مجلس النواب، وتطرقه لأول مرة لمسألة الحريات العامة وقضية الحمايات الأجنبية.
مشروع الشيخ عبد الكريم مراد المتأثر بحالة إصلاحية سياسية ودستورية شهدها عصر التنظيمات والأحكام العدلية في الدولة العثمانية.
صرخة السلطان عبد الحفيظ العلوي في كتابه “داء العطب قديم”. كما يمكن اعتبار “البيعة الحفيظية” حلقة لا تنفصل عن سلسة المشاريع الإصلاحية في هذا الطور الحساس من تاريخ المغرب، نظرا لكونها اشترطت على الراعي شروطا هامة، وربطت مسألة إنهاء السلطة الروحية والزمنية للسلطان من لدن العلماء الذين صاغوا الوثيقة بإنجاز السلطان لمضامين “البيعة المشروطة، والتي رامت فيما رامت؛ إنفاذ الإصلاح في البلاد.
لقد أكدت المذكرات الإصلاحية التي تقدم بها العلماء والفقهاء المذكورة بما لا يدع مجالا للشك بأن هؤلاء المصلحين قد ساهموا بأقلامهم النيرة في الإصلاح السياسي والثقافي الشامل الذي عرفه المغرب طيلة القرنين الأخيرين، خاصة مواجهتم الفكرية لكل مظاهر الغزو الحضاري الأجنبي لأرض المغرب.
[1] أغلب مواد هذا المقال مأخوذة من مقال “مذكرات الإصلاح الدستوري بمغرب ما قبل الحماية.. مذكرة على زنيبر نموذجا”، للباحث المتخصص عدنان بنصالح.
[2] كافي أحمد، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين،