اللغة وعاء الثقافة

مما هو بديهي عند العلماء واللغويين منهم خاصة، أن اللغة والثقافة في التحام دائم ويشكلان وجهين لموضوع واحد، ذلك أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب وإنما هي أيضا ناقلة للثقافة التي ينتمي إليها.
أو بعبارة أخرى فإن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار، وإنما هي ذات ارتباط وثيق بالأفكار التي تنقلها، وذات تأثير فيها وتأثر بها.
كما أن اللغة تؤثر في الشخص الذي يتحدث بها ويمارسها تأثيرا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته وإلى أعماق أعماقه، وإن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به.
وبما أن طابع الثقافة الفرنسية علماني ومادي، فإن الأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة في فرنسا كانت من جنس تلك الثقافة، فالإباحية والانحلال الخلقي وغير ذلك تبدو عند الفرنسي أمورا عادية، بل وربما عبرت عن الحرية في «أسمى» معانيها.
ولما كانت اللغة الفرنسية وعاء لثقافة منحطة أخلاقيا ولم يكن غريبا أن تكثر فيها الكلمات والألفاظ والأمثال والمعاني الساقطة وكفى بأدبها -شعرا ونثرا- دليلا على ذلك، ومن هنا فإن مؤلفي الكتاب المدرسي -في بلدنا- لمادة الفرنسية انساقوا مع تيار الثقافة الفرنسية واستعذبوا كثيرا من النصوص بالرغم من مضمونها الأخلاقي وأقحموها في ذلك الكتاب.
إن المطلع على التعليمات الرسمية المتعلقة بتعليم اللغة الفرنسية -انطلاقا من الثمانينات- يجدها تنص على أن “الانفتاح” على ثقافة وحضارة الآخر (أي الغرب) يعتبر من أهم الغايات المستهدفة من تعلم التلميذ المغربي للغة الفرنسية.
إن اللغة الفرنسية بالنسبة لهذا التلميذ وسيلة للحصول على ثقافة مغايرة. وبما أن نصوص هذه التعليمات لم تشر إلى استحضار المعيار الأخلاقي حين اختيار النصوص الأدبية والفكرية والتربوية المتعلقة بمادة اللغة الفرنسية، فإن الكتاب المدرسي المتعلق بهذه اللغة صدر طافحا بالنصوص اللأخلاقية واللاتربوية.
مما لاشك فيه أن الاهتمام باللغات الأجنبية وتعليمها في المدارس والمعاهد والمؤسسات التعليمية، بات أمرا ضروريا وحيويا في وقتنا المعاصر لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية.
كما أن تطور تقنيات التواصل بشكل قوي ومدهش زاد في تعميق العلاقة الثقافية بين شعوب الأرض، مما لزم عنه الزيادة في الإقبال على تعلم مختلف اللغات العالمية.
بيد أن هذه الظاهرة لا تخلو من انعكاسات سلبية إذا لم يكن ثمة توازن اقتصادي وثقافي وسياسي بين الشعب المتعلم والشعب الذي يملك اللغة المطلوب تعلمها، أو أن أحدهما كان مستعمرا من قبل الآخر، وكلا العلتان -ويا للأسف- متواجدتان فيما يخص العلاقة بين الشعب المغربي والشعب الفرنسي.
وليت تعلم أبنائنا اللغة الفرنسية كان من أجل امتلاك ناصية تلك اللغة في حد ذاتها لاستعمالها كأداة معرفية وثقافية، إذ لو كانت الغاية كذلك لهان الخطب، غير أنهم يعرفونها لكي «ينفتحوا» على الحضارة الغربية وخاصة منها الحضارة الفرنسية.
إن هذا الانفتاح الذي تنص عليه التعليمات الرسمية وكما يتصوره المسؤولون عن التربية والتعليم والثقافة عندنا، وكما يتخيله مؤلفو الكتب المدرسية لمادة الفرنسية، هو ما أسميه بالاستغراب.
وكثيرا مما يحلو لبعض «مثقفينا» المستغربين أن يماثل بين انفتاحنا هذا، وانفتاح المسلمين الأوائل على ثقافتي الفرس والروم ونهلهم من علوم اليونان ومنطقهم، لكن شتان ما بينهما، وإذا أردنا أن نوجز الكلام في هذه النقطة، قلنا إن هذا انفتاح ذل وذاك انفتاح عز . (أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب؛ للدكتور عبد الله الشارف/تطوان(.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *