لماذا اخترنا الملف؟

أضحى الحديث عن البدع والمحدثات اليوم من قبيل المسكوت عنه، ومن رام فتح هذا الملف سيعرض نفسه لانتقادات كثيرة، لارتباطه بسياسة بعض المسؤولين عن الحقل الديني، الذين يرنون إلى إحياء ما اندرس من تراث الزوايا والقباب.

فالطقوس والبدع الشركية التي تعج بها هذه الأماكن كالذبح والنذر والخشوع والخشية والدعاء والتوكل والخوف والرجاء والرهبة والرغبة.. التعبد بها لغير الله سبحانه وتعالى يعد شركا مناقضا لعقيدة التوحيد الخالص الذي أمر الله به عباده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} الجن.
فإذا كان اجتناب الشرك وتحقيق التوحيد، واقتفاء السنة واجتناب البدعة معلوما من دين الإسلام بالضرورة، فمن الغريب أن يصرح مسؤول عن الشأن الديني في البلد في كلمة ألقاها أمام المرشدين والوعاظ الدينيين المتخرجين من إحدى مراكز التكوين بقوله: “إذا سمعتم من يقول بدعة بدعة بدعة، فلا تهتموا بكلامه”، وكأن هذا المسؤول لم يسمع يوما ما خطبة الحاجة التي كان يستفتح بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خطبه ومواعظه “إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”.
نعم نحن ضد من يبدع الناس بالجملة، ودون ضوابط شرعية، فالتكفير والتبديع والتفسيق أحكام يصدرها من توفرت فيه شروط الأهلية، ولا يجوز أبدا أن يتكلم فيها من لا يحسنها، لكن يجب على الساهرين على تأطير الحقل الديني أن يتحملوا مسؤولياتهم، ويبينوا للناس المخالفات الشرعية والبدع الشركية والعملية التي قد يقعوا فيها، ولا يغالوا في التنفير ممن يحذر من البدع والمحدثات دون بيان وتثبت.
لقد وقف علماء المغرب وولاته قديما سدا منيعا في وجه البدع والمحدثات وحذروا منها، فهذا المولى سليمان رحمه الله تعالى يقف خطيبا بين صفوف أبنائه وشعبه قائلا: “..واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها ملتبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء والبدع ويلبسون، وافترقوا أوزاعا وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا..” إلى آخر كلامه.
وصنف ابن وضاح القرطبي كتابه البدع والنهي عنها وكذا أبو بكر الطرطوشي، والإمام الشاطبي الذي اتفق كل المالكية على الإشادة بكتابه الاعتصام الذي نسف فيه البدع نسفا وأتى على أصولها من القواعد، وصنف العلامة الراحل رئيس المجلس العلمي بالرباط ووزير الأوقاف سابقا المكي الناصري رحمه الله تعالى “كتابه علاج الخليقة” شنع فيه على المعظمين القبور والأضرحة، وهو العمل نفسه الذي قام به مفتي رابطة علماء المغرب الشيخ محمد كنوني المذكوري وعلامة المغرب الشيخ عبد الله كنون.
وألف العلامة أحمد بن محمد بن تاويت التطواني رسالة سماها: “إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور والصلاة بالزوايا”، حرم فيه البناء على القبور والصلاة في المقابر والزوايا.
وغيرهم من العلماء الذين يضيق المقام بحصرهم.
فلم إذا أنكر بعض علماء المغرب المعاصرين البدع والمحدثات والمغالاة في تعظيم القبور والأضرحة ومظاهر الشرك ينبزون بأنهم وهابية متشددون، بعيدون كل البعد عن وسطية المذهب المالكي وسماحته؟
قال ابن الحاج المالكي في المدخل: وقد نقل الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب “إلجام العوام عن علم الكلام”: اتفقت الأمة قاطبة على ذم البدعة، وزجر المبتدع، وتعتيب من يُعرف بالبدعة”. اهـ
فالمقصود من وراء التحذير من البدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للمسلمين وحفظ الدين وشريعة رب العالمين من كل دخيل، فالخير كل الخير في التمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله تعالى إلا بما شرع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني فرطكم على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي” متفق عليه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “نحن قوم نتبع ولا نبتدع، ونقتدي ولا نبتدي، ولن نضل ما إن تمسكنا بالأثر”.
وقال أيضا: “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم”.
فأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأصدقهم حديثا، وأعمقهم علما، حرصوا على تبليغ الأمة سنة رسول الله من قول أو فعل أو ترك أو تقرير، وبالغوا في التحذير عما يخالفها من قول أو فعل مهما كان ذلك وعلى أي وجه يكون، ولم يفرقوا في الإنكار بين ما ظاهره الحسن وما ظهر سوءه، فلم يقولوا بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، بل اعتبروا البدعة أمراً منكراً وزوراً من القول والعمل، وقولاً على الله بلا علم، وتشريعاً من الدين بما لم يأذن به الله، حجتهم في ذلك الإيمان بأن الله أكمل دينه وأن رسوله صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، وبين لعباد الله خصائص دينهم ومقتضيات أعمالهم، وأن الأخذ بالبدعة يعني مناقضة ذلك الإيمان باعتبار أن البدعة في ظن مبتدعيها والآخذين بها إكمال نقص في الدين.
فالابتداع باب الشيطان إلى الغواية والإضلال والضلال، فمنه دخل على الأمم السابقة يضلهم ويمنيهم ويغويهم ويزين لهم أبواب الابتداع حتى غيروا الشريعة وحرفوها.
ولبيان خطورة الابتداع في الدين ومعارضته لشريعة رب العالمين ارتأت جريدة السبيل فتح ملف حول هذا الموضوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *