على عكس ما قد يظنه البعض، لم تكن فكرة تدخّل أجهزة الدولة الفرنسية وليدة الهجمات الأخيرة التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة والتي تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية، ففكرة “فرنسة الإسلام” ظهرت مع نهاية القرن العشرين، حين فطن المسؤولون الفرنسيون أن الإسلام بصورته الرئيسية أو الإخوانية أو السلفية يُشكِّل تهديدا كبيرا لأسلوب الحياة الفرنسي.. |
مع بروز أحزاب اليمين في المشهد السياسي الغربي والأوروبي على الخصوص، بل ومع وصولهم للسلطة، أعيد النظر في تعامل الغرب مع الظاهرة الإسلامية، فنتج عن ذلك مشروع جديدة وبرامج جديدة للتعامل مع الظاهرة.
عنوان هذا التعامل هو سياسة التجفيف التي تستهدف كل ما له صلة بالإسلام الحقيقي لا الإسلام المصنوع في مراكز بحثية سماه أحد الباحثين “إسلام الماركتينغ”. هذه السياسة لها امتدادات كثيرة، تصل لحد استهداف المشايخ والعلماء والرموز الإسلامية والمراكز الإسلامية والجمعيات الدعوية ومراكز تحفيظ القران الكريم وتعليم اللغة العربية والقنوات الإسلامية الدعوة كذلك.
لنُقرِّب الفهم أكثر للقارئ، سنعطي المثال بسياسة فرنسا الدينية، وهذا ما أبرزه مقال “شريعة على مقاس الجمهورية العلمانية.. هل تسعى فرنسا لتأميم الإسلام؟” المنشور على موقع “الجزيرة”، الذي يورد أنه عندما تصل إلى فرنسا كمهاجر قادم من دول غير غربية، فستكون مطالبا بحضور دورة “الإدماج والتعريف بمبادئ الجمهورية” التي يسهر على تنظيمها المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج. تهدف هذه الدورة إلى تعريف الوافدين الجدد بفرنسا، تاريخها وثقافتها ومجتمعها، الفقرة “الأهم” حسب منشطي هذه الدورة، هي تلك المخصصة للعلمانية، إذ تُقدِّم فرنسا نفسها على أنها بلد بدون دين، إلا أنه يكفل الحرية الدينية للجميع، لكن هذا الأمر لا يُمثِّل كل الحقيقة، ولا حتى نصفها.
يضيف المقال أن تصريحات إيمانويل ماكرون الأخيرة عن الإسلام واندماج المسلمين في فرنسا، هي الدليل على سياسة فرنسا الاقصائية تُجاه ما له أدنى علاقة بالإسلام، فحديث ماكرون عن “إرغام أي جمعية أو مؤسسة مدنية في فرنسا التوقيع على ميثاق للعلمانية، وفرض إشراف مُشدَّد على المدارس الخاصة الدينية والحد بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي، وتوسيع حظر الحجاب في المؤسسات الخاصة”، هو تجلٍّ واضح لأزمة التقليد الجمهوري الفرنسي مع مفهوم المجتمع المدني بمعناه الواسع، أي المجتمع المدني كونه حيزا عاما خارج السوق والدولة، حيث من خلاله تسود ثقافة الاختلاف والتنوع والانقسام والتعارض والتعددية الثقافية التي تظهر في عدد من الدول الغربية الأخرى التي بها جاليات مسلمة كبيرة.
يوضح المقال أكثر، أن فرنسا انتهجت لتحقيق سياستها الدينية الجديدة طريقتين مختلفتين لكن بهما ستصل للغاية غير المعلنة: تجفيف منابع الإسلام غير المزيف في داخل فرنسا.
أولا: التواصل المستمر مع الهيئات والمنظمات الإسلامية الموجودة في البلاد، كالفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا واتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا وفيدرالية مسجد باريس، إذ تحرص الدولة الفرنسية على ربط الاتصال بهذه الهيئات وحضور المناسبات التي تنظمها، ثقافية فكرية كانت أو انتخابية، مستغلة رغبة هذه المنظمات واستعدادها للتنسيق معها لحيازة شرعية تمثيل الجالية الإسلامية في البلاد.
ثانيا: التدخل المباشر عبر إنشاء هيئات غير تابعة عضويا للأجهزة الرسمية، رغم تأسيسها من طرف شخصيات رسمية تعمل بوزارة الداخلية الفرنسية، وهو ما قد يفسر بعدم ثقة أو رضى الدولة الفرنسية عن المنظمات والهيئات الإسلامية في طريقة تأطيرها للجالية الإسلامية أو في نوع الرسالة الدينية التي تقدمها عبر المنابر والندوات الفكرية، لتقرر الجمهورية العلمانية أخذ زمام المبادرة عبر مؤسسة إسلام فرنسا، التي ستضمن لها التدخل في تأطير الإسلام دون الوقوع في المحذور ألا وهو انتهاك قوانينها العلمانية.
وعلى عكس ما قد يظنه البعض، لم تكن فكرة تدخّل أجهزة الدولة الفرنسية وليدة الهجمات الأخيرة التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة والتي تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية، ففكرة “فرنسة الإسلام” ظهرت مع نهاية القرن العشرين، حين فطن المسؤولون الفرنسيون أن الإسلام بصورته الرئيسية أو الإخوانية أو السلفية يُشكِّل تهديدا كبيرا لأسلوب الحياة الفرنسي، وسيصعب لا محالة اندماج الجاليات الإسلامية مع باقي طوائف المجتمع.
فكانت التعويلات كبيرة على هذه المنظمات الجديدة، لكن عملها تعرقل في ظل النشاط الكبير للمنظمات الإسلامية الأخرى، ما جعلها تختفي تقريبا لعقد كامل، وتعود للظهور سنة 2016 عن طريق وزير الداخلية السابق جون بيير شوفانمون الذي عُيِّن رئيسا لها، ما أثار الكثير من الجدل كونه ليس مسلما، ليحل مكانه الجزائري غالب بن الشيخ.
المثال هي منظمة “إسلام فرنسا” التي خلقتها السلطات الفرنسية كبديل عن منابع الإسلام غير المزيف: دور تحفيظ القران الكريم، المساجد، الجمعيات الدعوية، القنوات الإسلامية. هذة المنظمة تقدم نفسها أنها مؤسسة علمانية تهدف إلى مقاومة التطرف الإسلامي الراديكالي السلفي، وطرح منظور جديد للإسلام عن طريق الثقافة المستنيرة التي تفتح الآفاق للتعايش السلمي بين الجميع، إذ تؤكد الجهة نفسها أن “إسلام فرنسا” ليست موجهة لفئة معينة دينية أو عرقية، بل هي موجهة لجميع المهتمين. وحول أنشطتها الرئيسية، ترى “إسلام دو فرانس” أن أولى أولوياتها إعادة تعريف الفرنسيين بالإسلام عبر تنظيم ندوات ثقافية وإنتاجات إعلامية وتظاهرات فنية، وذلك لإعادة العلاقة الودية بين الفرنسيين وبين إسلام ينتمي إلى ثقافتهم بعد فقدان الثقة المتبادل عقب الهجمات الأخيرة على فرنسا.
ضمن نفس السياسة، تعمل السلطات الفرنسية، وفق ذات المقال التفصيلي المذكور، على تكوين أئمة فرنسيين يتحدثون الفرنسية بطلاقة، للشعور بالمجتمع ومتطلباته، عوض استيراد أئمة قادمين من الدول العربية خصوصا المغاربية منها، والذين في غالب الأحيان لا يُتقنون اللغة الفرنسية ولا يملكون فكرة حقيقة عن الحياة في فرنسا، بجانب دعم البحوث العلمية. هذا ما يُقال في العلن، لكن المؤسسة لن تكتفي قطعا بهذه الأدوار، على أهميتها، فهناك أدوار لم تُعلن عنها “إسلام فرنسا” وطرحتها بعض وسائل الإعلام.
سياسة فرنسا تجاه الإسلام الحقيقي لها أهداف أخرى غير معلنة، هي أهداف اقتصادية وسياسية، تهدف عبر ترسيم ضرائب على تجارة اللحوم الحلال، والرحلات المتجهة إلى الحج، كما يرى ماكرون، لتحقيق استفادة اقتصادية، وذلك عن طريق خطة إعادة النظر في طريقة تنظيم الرحلات المتوجهة إلى مكة المكرمة، بعد أن كانت فرنسا حتى الأمس القريب تكتفي باعتماد 40 وكالة سفر تتعامل مباشرة مع السفارة والقنصليات السعودية. بجانب المشروع الأضخم والأخطر، إحكام السيطرة على المساجد، وعلى مصادر تمويلها الخارجية من الدول العربية والإسلامية، بهدف السيطرة على محتوى الرسائل الدينية التي تُبث داخلها.
خلاصة، لماذا كل هذا التسلط والتمادي في تجفيف منابع التدين والإسلام بالغرب؟ لن يجيبكم كاتب هذه السطور، بل الإجابة هو ما سمعت عن أحد المواطنين الأوروبيين في برنامج تلفزيوني على قناة غربية يقول فيها “إن قادتنا يحاربون الإسلام لأنه يمثل المرآة الحقيقية لهم، فلما يقفون أمامه يتذكرون إجرامهم في حق شعوبهم وشعوب العالم”.
نعم الغرب لا يحارب “إسلام الماركتينغ” بل يحارب الإسلام الحقيقي الذي يشجع على أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وتعاليمه في النظافة والنظام والتحضر والتواضع ورفض الظلم واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، إنها صورة محمد صلى الله عليه التي لا يراد لها أن تظهر في الغرب المستغِل للإنسان والمدنِّس لكرامته.