أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبـــي قال: “إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان عليه أن يَدُلَّ أمته على خير ما يعلمـــه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها فــــي أولهـــا وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجـيء فتن فوق بعضها بعضــًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النـــار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامـًا فأعطاه صفقة يده وثمـــرة قلبـــه فليطعه إن استطاع فإن جــاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر”.
إن مشروع التغريب لا يُمكن اعتباره صناعة محلية نتجت عن قناعات أبناء المسلمين، بل الأمر يتعدى ذلك، حيث يقدم له الدعم من جهات خارجية بشكل علني متسترة وراء دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما ترتب عن ذلك شيوع فتن وشبهات أصبح لها اليوم محاضن تتبناها، ونخّاسة يروجونها بُغية إضعاف التمسك بالدين، ونشر الفساد في الأرض وكان لابد لهذه الفتن من قوة تمرَّرها وتسوَّغ أهدافها، يزامنها إضعاف للمناعة التي ترفض فتن الشبهات والشهوات، وما عرف التاريخ أخطر من طائفة المندسين في صفوف الأمة يدَّعون الغيرة على العباد والبلاد وهم دعاة الضلال والفساد “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ”.
دعاة التغريب والفتن
ما عرف التاريخ أفرح من تلك الطائفة بالفتن وأسرع ركضاً بها ولها ودعوةً إليها واستغلالاً لظروفها في الانقضاض والهجوم على ثوابت الأمة في عقائدها وعباداتها وأخلاقها، ويبدأ التمهيد لمؤامرة هؤلاء المفسدين في المجتمعات الإسلامية، بكثرة الحديث عن العلماء في معرض الذم والتنقيص والاستخفاف بمكانتهم ومن منزلتهم، ثم يُعقبونه دعوة إلى توسيع دائرة التلقي والأخذ بالفتاوى الشاذة من كل مصدر وجِهَة تنتسب إلى الإسلام بغض النظر عن مرجعيتها وتاريخها وحجم الثقة بها، ثم يتبعه أيضاً تشكيك في كل نشاط علمي أو دعوي سواءً كان دورات شرعية أو حلقات علمية أو محاضن لتعليم القرآن في المساجد والكتاتيب والجمعيات، وكل ذلك تحت شعار نقد التطرف والإرهاب، قام بذلك قنوات فضائية “M2” وأقلام صحفية “الأحداث المغربية، الصباح…”، نعم لقد شهد مجتمعنا صوراً أليمة من الغلو والتطرف تمثلت في تفجيرات الدار البيضاء المؤلمة، استغلها الانتهازيون من دعاة التغريب لتعميم الصورة واتهام كل عبد صالح مستقيم وكل عمل دعوي علمي نزيه، بغية تضييق الحصار على الفضيلة والقيم والحياء، وتوسيع دائرة القبول للشك والريب في الثوابت والرموز، ونظمت معركة الزحف لتغريب المجتمع المغربي ضمن معركة إستراتيجية وُزعت أدوارها بدقة بالغة على مجندين ومتطوعين ومنظمين بل وعملاء فيهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويدعون الغيرة على الدين والوطن، ولقد قال فرعون من قبل: “ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ” فهل كان فرعون يخاف من نبي الله موسى على دين رعاياه؟ وهل جاء موسى عليه السلام بالفساد؟ فتأمل.
إننا مهما علت أصواتنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ أن هناك حدودا لا يجوز تجاوزها، خاصة في زمن الأزمات والمحن، كالالتفاف حول ولاة الأمر والصدق معهم في عقد البيعة وميثاق الولاء في طاعة الله ورسوله، أمرٌ لا يمكن التهاون به أو التفريط فيه، إذ الأمر عندنا عقيدة راسخة تلقيناها منذ نعومة أظفارنا، عكس ما يفعله دعاة التغريب والعلمنة من حملات انتهازية عند هبوب الفتن والنكبات من توجيه نيران المدفعية الإعلامية على البيعة وتحديد اختصاصات المؤسسة الملكية وعلى الشأن الديني وعلمائه وخطبائه، والملتزمين بدينهم عامة.
أهل العلم والعقل يلتفون حول ولاة أمرهم إذا اشتدت الفتن، يشيدون أزرهم ويناصحونهم يبينون مكامن الخلل ومواطن الزلل بإخلاص وصدق ومحبة وولاء وطاعة وامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما دعاة التغريب وبنو علمان فقد جعلوا منابرهم منصات لإطلاق صواريخ تضرب في كل اتجاه وتستهدف الاستقرار والوحدة والثوابت والطهر والعفاف في كل مظاهر الخير في المجتمع مستغلين الأزمات والظروف لشن الحرب القذرة الشرسة على الدين والقيم والخصوصية والهوية.
لاشك أن الدعاة التغريب عاجزون عن التصدي للفكر التكفيري الذي استهدف أمن البلاد وأرواح العباد، وفي مقابل ذلك لا تراهم يتصدون في مقالاتهم وكثير من كتاباتهم للمؤامرات الغربية التي تحاك ضد البلاد ووحدتها، ولو أن تحقيقاً مستقلاً أُجري عن توجه كثير من المنابر الإعلامية والأقلام الصحفية التي يسيطر عليها كثير من هؤلاء وعن مدى خدمتها لقضايا الوطن والمجتمع لأدرك الجميع أن التحيز للفكر الغربي والنقد اللاذع لكل ما هو شرعي يعتبر سمة بارزة في عامة دعوة هؤلاء، سواء في مقابلاتهم أو مقالاتهم أو في تحقيقاتهم بل حتى في صياغة كثير من قضايا المحلية والمشكلات المجتمعية وطريقة عرض الصور ومتابعة الشؤون الثقافية والفكرية تراهم لا يخرجون عن هذا، بل ويصرح كبراؤهم بأن الحرب التي يخوضونها هي الحرب ضد المحافظين.
فقد نشرت الصحيفة العلمانية “الأحداث المغربية” مقالات متعددة تحت محور “على مسؤوليتي” مفادها التنقص من الشريعة الإسلامية من جملتها مقال تحت عنوان “أمريكا تغزو العالم بالعلم ونحن نغزوه بالفقه” كأن ليس بيننا وبين أن نصنع الطائرات إلا نبذ الفقه، وكأن ليس بيننا وبين أن ندخل في التصنيع الثقيل إلا أن تمزق المرأة حجابها وأن تضع الفتاة حياءها لتضرب به عرض الحائط، وكأن ليس بيننا وبين أن ننافس دول العالم في التقنيات والاكتشافات والاختراعات إلاّ نبذ الدين جملة وتفصيلا، أي وطنية يدعيها عملاء التغريب الذين يسعون إلى نحر الوطن وتمزيقه وضرب ثوابته والأساس الذي قام عليه باسم السعي إلى مصلحته، تماماً كما يسعون إلى تنحية الإسلام عن التحكُم في جميع شؤون الحياة، لقد بلغ من تهاونهم بمصالح الوطن أن أجروا مقابلات مع أعداء الوحدة الترابية، وما فتئوا يلمعون رموزاً من الحاقدين على البلاد وعلى كثير من العلماء والدعاة وترويج صور مغلوطة وذلك لكون هؤلاء العلماء والدعاة وطلبة العلم وأساتذة الجامعات تصدوا للفكر التكفيري الاستئصالي وللفكر العلماني التغريبي، واتهموهم أنهم سطحيون لا يدركون مصحة الوطن ولا يسعون إلى تحقيقها. وأما العلماء والمؤسسة الدينية عامة فأولئك عندهم تاريخٌ يجب أن يطوى، وذكرٌ يجب أن ينسى، وقضيةٌ لا يجوز العودة إليها بعد أن دخلنا في الألفية الثالثة.