المناهج التربوية وصراع التغريب والتعريب ذ : محمد بوشنتوف

ما من مدينة ولا قرية ولا حي ولا مدشر في بلادنا إلا وبه مركز للتغريب أو مؤسسة للثقافة زعموا، يرفعون أعلامهم خفاقة، وينشرون ثقافاتهم البراقة، ويقتلون من غير حرب ولا ضرب…
فالكل استجمع خزاياه من أجل التنكيل بالعربية، غرب متربص ومتمزغ حاقد وإعلام فرانكفوني وشَعبَويٌ يدعو إلى الدارجة بحجة أنها اللهجة التي يفهمها كل المغاربة…
تعليم ضرره أكثر من نفعه، تعليمٌ أعمى وأعرج ومريض ما خرج إلا أصحاب الإمضاءات الجميلة والشكليات التافهة.

إن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد، وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسليحها بالدلائل العلمية إذا احتيج لها، ووسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة. وإن أفضل تفسير لنظام التربية هي أنها السعي الحثيث المتواصل يقوم به الآباء والمربون لإنشاء أبنائهم على الإيمان بالعقيدة التي يؤمنون بها والنظرة التي ينظرون بها إلى الحياة والكون، وتربيتهم تربية تمكنهم من أن يكونوا ورثة صالحين للتراث الذي ورثه هؤلاء الآباء عن أجدادهم مع الصلاحية الكافية للتقدم والتوسع في هذه الثروة. (1)

لقد كان من بين أهم أهداف الجيل الأول والذي أخرج الاستحمار من بلاد المغرب الأقصى، أن يعيد للعربية أمجادها من خلال مشروع ما بعد الاستقلال، لكن سرعان ما كُتمَت الأصوات الداعية إلى تعريب المناهج الدراسية والوثائق الإدارية، بل وتم إقصاء هذا الدور بتهميش أصحابه، وهذا ما صرح به المؤرخ الكبير عبد الهادي بوطالب رحمه الله تعالى قبل وفاته، ولقد خاض الرجل صراعا مريرا رافقه فيه ثلة من الأخيار من العلماء والغيورين، لكن تيار الجنرال أفقير -والذي لا يتقن إلا الفرنسية- جابه مشروع التعريب بالقوة تارة، وبالوشاية إلى القصر أخرى.
ونجحت الفرانكفونية في إقناع المربي والطالب المغربي أن المواد العلمية لا تدرس إلا بالفرنسية، وأن العربية غير قادرة على توصيل الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض، واستمر هذا الوضع ليكرس ثقافة الاستهانة بالمواد الأدبية واعتبارها مواد ثانوية من خلال إنزال درجات معاملها، واعتبارها غير موصلة إلى سوق الشغل، ونتج عن ذلك: أن يوصف كل تلميذ غير مجتهد أو ذكي نبيه بأنه: تلميذ أدبي… والحق أن كل هذه الجعجعة يراد بها مادتين فقد، التربية الإسلامية واللغة العربية.
لقد كشفت كتب المستشرقين ومدوناتهم عن مدى التخطيط الرهيب الذي يُكاد لهذه الأمة… فأمة لا تخطط لأبنائها تستحق أن يُخَطَط لها… جاء في كتاب: إلى أين يتجه الإسلام، والذي اشترك في تأليفه جماعة من المستشرقين وأشرف عليه المستشرق الإنجليزي -جيب- يقول عن التعليم الغربي وأهميته كوسيلة فعالة لتغريب المسلمين: إننا لا بد أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية وعلى التفكير الغربي… هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره. وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين(2)…
وعن هذا المعنى يقول أبو الأعلى المودودي: إن العلوم والفنون الغربية تدرس للنشء المسلم عندنا على أنها الصفاء والنقاء وحقائق إيجابية لا ترد، فتنصاغ عقليتهم كلها في القالب الغربي بحث يعودون ينظرون بعين الغرب ويفكرون بذهن الغرب…ويتقوى هذا التأثير والتأثر بدخول الجامعات فليس هناك شيء من اللباس والعادات والحركة والتكلم واللهو إلا ومصطبغ بالحضارة والتمدن الغربي والميول والنوازع الغربية فأصبحت الجامعات غربية بكاملها.(3)
إن الصورة القاتمة -والتي تعرفها مؤسساتنا وجامعاتنا- تجعلنا نخلص إلى النجاح الكبير الذي حققته مخططات الشيوعيين والاشتراكيين والرأسماليين بل والمد التنصيري واليهودي، وهي معاول هدمت منظومة القيم والأخلاق وقبل هذا وذاك أبعدت الأجيال عن الدين والتدين، وجعلتها فارغة الأكواب، مظلمة الروح ومتخبطة في ضلالات العقل مما أودى بها إلى يأس كثير، أشباه الرجال ولا رجال، ينكرون نفوسهم ويؤمنون بغيرهم… ورحم الله الشاعر محمد إقبال الذي وصف جيل التغريب بأنه شباب ناعم رخو رقيق في الثياب كالحرير يموت الأمل في مهده في صدورهم ولا يستطيعون أن يفكروا في الحرية، إن المدرسة قد نزعت منهم العاطفة الدينية، فأصبحوا في خبر كان، فاستطاع الأجانب أن يبنوا من تراثهم الإسلامي كنائس وأديارا…
ما من مدينة ولا قرية ولا حي ولا مدشر في بلادنا إلا وبها مركز للتغريب أو مؤسسة للثقافة زعموا، يرفعون أعلامهم خفاقة، وينشرون ثقافاتهم البراقة، ويقتلون من غير حرب ولا ضرب، وبالمقابل ينكسون رايات لا إله إلا الله (وما هم بمستطيعون) ويزرعون الشك في القلوب، وهمهم تجديد الدين وتحرير المرأة وتوسيع هامش الحرية الفردية، والثورة على القديم من لغة ومعتقدات وأعراف.
لقد أصبحت اللغة العربية في وضع لا تحسد عليه، فالكل استجمع خزاياه من أجل التنكيل بها، غرب متربص ومتمزغ حاقد وإعلام فرانكفوني وشَعبَويٌ يدعو إلى الدارجة بحجة أنها اللهجة التي يفهمها كل المغاربة… والأدهى والأَمَر فكثير من رجال ونساء التعليم، الذين يشغلون وظيفة التبليغ والتثقيف لا يستطيع الواحد منهم -إلا ما رحم ربك- أن يشرح درسه إلا بالعَرَنسيَة أو الدارجة…
إن التعليم الذي لا يُخَرج إلا أصحاب الإمضاءات الجميلة والشكليات الوظيفية والمعرفة القليلة، لهو تعليم ضرره أكثر من نفعه، تعليمٌ أعمى وأعرج ومريض، تنكر لثوابت الأمة، وخان أمانة الأجيال، واستقوى بالغرب العلماني فجعل مناهجه قرآنا يتلى آناء الليل وأطراف النهار، وقدس أصحاب النظريات والفلسفات واللغات فصارت آلهة تعبد من دون الله، بها يسبح أبناؤنا ولها يحمدون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبوالحسن الندوي أهمية نظام التربية والتعليم ص 12 – 13 وهونقل من عالم التربية المعروف جون ديوي.
(2) نقلا عن محمد محمد حسين، الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ج 8 ص 216 – 217
(3) المودودي نحن والحضارة الغربية ص 29 بتصرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *