تصاعدت في الآونة الأخيرة الأصوات المنادية بالحرية، وكل الأجواء والأوضاع تساعد على هذه المطالب، إلى حد جعل بعض وكلاء الثقافة الغربية ووسطاء القيم الكونية في مجتمعنا يطرح مطالب متطرفة في الحرية، مرفوضة ومنبوذة، ويروج لها ويدافع عنها، ووجد متسعا ومكانا له بيننا في مجتمعنا المسلم المحافظ، بل وجد من الحماية والدعم ما لم يتحصل لغيره، من أبناء البلد الضاربين بجذورهم في عمقها، المحافظين على ثقافتها وهويتها، الذابين والمدافعين عن خصوصيتها.
بالمقابل يعيش الخطباء والأئمة، أجواء أشبه ما تكون بمحاكم التفتيش، ووضعية مزرية لا تقيم اعتبارا لإنسانيتهم وشخصيتهم ومكانتهم، وفي الوقت الذي ينعم فيه الكل بنصيبه من كعكة الحريات، في سوق أطلق فيها الحبل على الغارب لكل صاحب فكر شاذ، ومشروع مخرب مدمر، نرى القيود ما زالت تضرب على المجال الديني والمتصلين به.
فبعد مرور عشر سنوات على إطلاق مشروع هيكلة الحقل الديني، وما رافقه من خطابات ومذكرات وتوجيهات، بقصد تنزيل المشروع وتطبيقه، تحصل لدينا واقع مر وأليم؛ إما على مستوى وضعية الأئمة والخطباء المادية وتسوية وضعيتهم؛ أو على مستوى خطابهم ودورهم ومكانتهم.
والناظر في حزمة الإصلاحات التي تستهدف الشأن الديني يلاحظ أنها محكومة بهاجس السيطرة والتوظيف والإدماج والإخضاع.
لقد انتقلنا من مطلب فصل (الديني) عن (السياسي) إلى توظيف (الديني) لخدمة (السياسي)، يقتاده كما يقتاد شاهد الزور، ليشهد على قضايا لم يحضرها ولم يكن طرفا فيها، يرسم له الخطوط الحمراء، فيضيق عليه حتى يخيل لك أن الإسلام مجرد طقوس وشعائر، ويمنع من إبداء رأيه في القضايا الوطنية والدولية، وتوجيه الناس وتحسيسهم بالمخاطر التي تحدق بدينهم وأمتهم، حتى يخيل لك أن العهد الستاليني بسط سيطرته ونفوذه.
ثم يؤمر بالحديث عن الانتخابات وحوادث السير والدخول المدرسي وعيد المرأة واليوم العالمي للبيئة وملح اليود (هكذا)، حتى ترى رأي العين، أن كل من أراد تمرير خطاب أو رسالة، والترويج لمشروع أو فكرة، وحشد الدعم والدعاية له، لا يزيد عن تضمين ذلك في خطبة وتكليف الخطيب بإلقاءها، لإضفاء صبغة المشروعية عليها، والذي يخرج عن هذا الإطار فمصيره التوبيخ والتقريع أو الطرد والتشريد!!
من أجل ذلك كان هذا الملف بغرض تسليط الضوء على السياسة الدينية التي بدأت تنحو منحى خطيرا، يخدم المشروع الحداثي العلماني، ويوفر له الغطاء والمشروعية.