أئمة الأشاعرة يرجعون عن علم الكلام

والمراد بالكلام هنا: إثبات العقيدة بالأقيسة العقلية والقواعد المنطقية، وقد تتابع السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم على التحذير منه، وعدّه علما منحرفا وإن كان قصد أصحابه صحيحا، وإن اشتمل على بعض الصواب.

وهذا العلم مزج في موضوع الصفات الإلهية بين قواعد السلف وقواعد المعتزلة، وهو عمدة الأشاعرة.
والرجوع عن المناهج الكلامية مروي عن أبرز وأشهر من خاض فيها من العلماء؛ كأبي محمد الجويني (م.438)، وولده أبي المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين (م.478)، وتلميذ هذا الأخير؛ الغزالي (م.505)، وابن أبي الحديد (م.469)، والشهرستاني (م.549)، والرازي (م.606)، والخونجي (م.646)، وشمس الدين الخسروشاهي (م.652) تلميذ الرازي، رحمهم الله، على تفاوت بينهم في ذلك.
أما الإمام أبو محمد الجويني فيأتي ذكر قصة رجوعه من الأشعرية الكلامية إلى السلفية في مقالة “أخطاء الكلاميين”.
وأما ولده إمام الحرمين؛ فقد “امتلأت كتبه بذكر تأويلات الصفات، وما يتعلق بتقديم العقل على النقل، وما يتعلق بأفعال العباد وغيرها حتى أصبحت كتبه هي المصدر الوحيد والأساسي لمذهب الأشاعرة.
وبعد هذا المشوار الطويل الذي قضاه في الخوض في علم الكلام وفلسفته، بدت علامات الحيرة والاضطراب على أفكاره، فهداه الله تعالى إلى الحق، وإلى مذهب سلف هذه الأمة المشهود لهم بالخيرية.
فعرف أن السلف الذين كفوا ألسنتهم عن هذه الآراء والأفكار، هم أصحاب المذهب السليم والمنهج الحكيم؛ فحرم التأويل الذي امتلأت به كتبه، وأعلن البراءة منه، واستدل على ما ذهب إليه من تحريم بإجماع السلف ومن تبعهم بإحسان.
قال رحمه الله في بيان هذا: “وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها( 1) إلى الرب تعالى…
والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقلا اتباع سلف الأمة؛ فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة.. فلو كان تأويل هذه الآي والظواهر مسوغا ومحتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي دين: أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويلات المشكلات، ويكِل معناها إلى الرب تبارك وتعالى..
ومما أستحسن من كلام إمام دار الهجرة رضي الله عنه وهو مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تبارك وتعالى: {الرحمن على العرش استوى}.
فقال: “الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة”. فلتُجري آية الاستواء والمجيء وقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} {ويبقى وجه ربك} وقوله: {تجري بأعيننا} ومما صح من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا”اهـ(2 ).
وكان لتلميذه الغزالي رحمه الله الموقف نفسه، والمتأمل في كلامه في هذا الباب يشعر أنه لم يكن مطمئنا للمنهاج الكلامي في تقرير المعتقد؛ فإنه مع كونه أشاد به وجزم بأنه ضروري لنصرة الدين، أكد أيضا أنه لا يصلح لأكثر الناس وأنه يشتمل على خطر عظيم، وأنه لا يتكلم فيه إلا نوع من العلماء، ولذلك ألف كتابه: “إلجام العوام عن علم الكلام”.
قال في “الإحياء” (1/113 ط. دار ابن الهيثم): “وليس الطريق في تقويته (أي: الإيمان) وإثباته؛ أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بقراءة القرآن تلاوة وتفسيره وقراءة الحديث”اهـ.
وقال أيضا (1/32): “وحاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيئا منها مألوفا في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع”اهـ.
ثم ذكر أنه صار مأذونا فيه بحكم الضرورة!
ثم اهتدى الغزالي أخيرا إلى ضرورة اجتنابه، وأن مفسدته أعظم من مصلحته.
قال في المصدر نفسه (1/116-117): “وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود”اهـ.
وهكذا زهد الغزالي في تلك (العلوم)، وأقبل على علم السنة النبوية؛ فسمع صحيح البخاري من أبي سهل محمد بن عبد الله الحفصي، وسنن أبي داود السجستاني من الحاكم أبي الفتح الحاكمي الطوسي.
قال تلميذه عبد الغافر الفارسي: “كانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم اللذين هما حجة الإسلام”(3 ).
وما أنفس ما جاء في وصية الإمام الرازي في آخر عمره:
“لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء كما في القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن والصحاح المتعين للمعنى الواحد فهو كما هو …
وأقول: ديني متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما…
وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف السيئ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر”اهـ( 4).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) قلت: السلف يفوضون الكيف، وليس المعنى.

(2]) العقيدة النظامية للجويني (ص.32-33)، وانظر: كتاب: “شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه في العقيدة” لأبي بكر الموصلي.

(3) طبقات الشافعية الكبرى (6/95). ومعلوم أن ابن تومرت (م.540) الذي أفشى علم الكلام في المغرب، وأكره الناس عليه، إنما أخذه عن الغزالي.

([4]) ذكر هذه الوصية؛ السبكي في طبقات الشافعية (8/90)، والصفدي في الوافي بالوفيات (4/250)، وابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء (ص.467).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *