ظل الصومال بمشاكله يشغل العالم لفتراتٍ طويلةٍ خلال القرن الفائت وما قبله، ويبدو أنه سيظل كذلك في المستقبل المنظور، فموقع الصومال موقع حيوي للقوى الكبرى، ولجاراتها -وخاصة إثيوبيا- على حدًّ سواء.
يحتل الصومال موقعًا فريدًا ومتميزًا شرقي القارة الأفريقية في منطقة القرن الأفريقي ويُطِلُّ بسواحل طويلة على المحيط الهندي؛ لذا كان مطمعًا لجارته إثيوبيا الدولة الداخلية المختنقة بعيدًا عن أي محيطات أو بحار، كما كان مطمعًا للقوى الاستعمارية الكبرى التي أرادت تأمين الطريق إلى مستعمراتها في الشرق كما فعلت بريطانيا عام 1839م، حيث أقامت حامية عسكرية على أرض الصومال لتوفر لجنودها الغذاء خاصة من لحوم الأغنام الصومالية المشهورة، واقتطعت من أرض الصومال قطعة تضم منطقة (أوجادين) وسمَّت هذه القطعة بالصومال البريطاني، كما ألحقت منطقة (أوجادين) خاصة بإثيوبيا، وعلى هذا المنوال سارت فرنسا، فقامت عام 1860م باحتلال جزءٍ من الأراضي الصومالية أسمته الصومال الفرنسي (جيبوتي فيما بعدُ). كما قامت إيطاليا بالشيء ذاته، فأقامت صومالاً ثالثًا أطلقت عليه الصومال الإيطالي عام 1889م.
لكن في عام 1936م قرَّرت إيطاليا توسيع نفوذها في الصومال على حساب الاحتلال البريطاني فاجتاحت جيوشها منطقة (أوجادين) الملحقة بإثيوبيا، تحت ادِّعاء إعادة الأمور إلى نصابها، ومن ثَمَّ قامت بإعادة هذه المنطقة للصومال، وأطلقت على المنطقة (الصومال الإيطالي وإقليم أوجادين) اسم منطقة شرق أفريقيا الإيطالية.
أصبح إقليم (أوجادين) بؤرةَ الصراع في القرن العشرين بين الصومال وإثيوبيا، هذا الصراع الذي تدثَّر بعباءة الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين: أمريكا والاتحاد السوفيتي؛ فاندلعت حرب كبيرة بين إثيوبيا والصومال تحت شعار الأحقية في إقليم (أوجادين) واستمرت تلك الحرب من عام 1964م حتى 1967م، حيث دعمت الولايات المتحدة إثيوبيا، في حين قام الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية بدعم الصومال حتى أُنهِكَت قوى الدولتين المتحاربتين فقبلا بوقف إطلاق النار، رغم أن المشكلة الرئيسية لم تجد حلاً مما جعل الوضع قابلاً للانفجار مرةً أخرى في أي وقت.
وفي السبعينيات من القرن العشرين قام اللواء محمد سياد بري -الذي استولى على الحكم في الصومال عام 1969م- بإلغاء الأحزاب، وإحكام القبضة الأمنية على البلاد، وإعلان التمسك بالأفكار الشيوعية في محاولةٍ منه للتقرب من الاتحاد السوفيتي، وقام كذلك بدعم كلٍّ من الفصائل الصومالية والمعارضة الإثيوبية المتواجدة في إقليم (أوجادين)، وطالًبَ إثيوبيا باستعادة الإقليم، وهو ما رفضته الأخيرة فاشتعلت الحرب الثانية بين الدولتين عامي 1977م و1978م.
استطاعت القوات الصومالية تحقيق نتائج مبهرة في بداية المعركة، واحتلت أجزاء واسعة من الأراضي الإثيوبية غير أن تدخُّل أمريكا لصالح إثيوبيا، وإمدادها لها بالعتاد والسلام كان كفيلاً بتغيير نتائج المعركة لصالح إثيوبيا، مما حدا بسياد بري إلى اتخاذ قرارٍ بوقف القتال؛ مما تسبب في ضياع حلم الجيش الصومالي باستعادة (أوجادين) والذي كان على وشك التحقق.
كان التوقف عن القتال بمثابة الصفعة المهينة لأحلام وطموحات المؤسسة العسكرية الصومالية، وقد دفعها ذلك الشعور إلى التمرد على سياد بري حتى تمكنت من إنهاء نظام حكمه عام 1991م.
بعد سقوط سياد بري وهروبه خارج البلاد غرق الصومال في أَتُون حرب أهلية طاحنة قادها أمراء الحرب، الأمر الذي دمَّر مرافق البلاد، وتسبب في مقتل وإصابة عشرات الآلاف غير المشردين.
وقد تخلَّل ذلك دخول القوات الأمريكية متسترة بعباءة الأمم المتحدة، ولكنها مُنِيَت بهزيمة ساحقة أمام مقاومة الشعب الصومالي مما أجبر أمريكا على الفرار من الصومال.
تسبَّبت الحرب الأهلية في تمزُّق الصومال إلى إمارات خاضعة لأمراء الحرب المنتفعين منها، الباحثين عن السلطة والثروة معًا، أما الشعب فقد عاش حياة بائسة مشردًا فقيرًا مفتقدًا للأمن على أرواحه وأمواله وأعراضه.
كانت إثيوبيا هي المستفيد الأكبر من تمزُّق الصومال وتفتته بين أمراء الحرب، حيث تخلَّصت من الجيش المنظم الذي كان يطالب بحقوق الصومال التاريخية في (أوجادين) بموافقة الحكومة الانتقالية الصومالية في نهاية التسعينات.
وكان لابُدَّ لهذا الطوفان من الدماء الصومالية أن يتوقف، وكان لابد فيمن يتدخل لإيقاف ذلك الدم أن تكون صفحته بيضاء، ويده نقية من الخوض في تلك الدماء..
ــــــــــــــــــــــــــــ
* د.راغب السرجاني