العربية من منظور استشراقي

لقد كان بعض المستشرقين المنصفين أذكى من كثير من المستلبين من أبناء المسلمين؛ الذين تنكبوا لانتمائهم ودينهم وهويتهم؛ وصاروا يناصبون العداء لكل ما يمت للدين بصلة. ومعلوم أن الاستشراق ليس كله على نسيج واحد؛ فثمة استشراق بحثي موضوعي هدفه البحث العلمي؛ وقد كان لهذا النوع فضل في إخراج بعض الكتب العربية والدينية إلى حيز الوجود؛ وثمة استشراق مغرض، يعلن شعار البحث والاستكشاف ويضمر مخططا خبيثا هدفه دراسة بلدان المسلمين دراسة دقيقة لتسهيل احتلالها وهدم عوامل نهضتها ومن تم القضاء عليها.

ومن المستشرقين المنصفين نذكر الألماني “يوهان فك” الذي وصف العربية قائلا: إن العربية الفصحى لتدين بالأساس حتى يومنا هذا بمركزها العالمي لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية”. الفصحى لغة القرآن للأستاذ أنور الجندي ص:302.
وقال جوستاف جرونيباوم: “عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد أنزلها “قرآناً عربياً” والله يقول لنبيّه “فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدّاً” وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتّبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات .
وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران -وهو عارف باللغتين العربية والسريانية- أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسناً، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً” اهـ. المرجع نفسه.
وقال المستشرق الفرنسي رينان: “من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولةٌ ولا شيخوخةٌ، ولا نكاد نعلم من شأنها إلاّ فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كلّ شائبة” مجلة اللسان العربي 24/85.
وقالت المستشرقة الألمانية زيفر هونكة: “كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللغة العربية بشغفٍ، حتى إن اللغة القبطية مثلا ماتت تماماً، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمد” شمس العرب تسطع على الغرب.
وقال المستشرق الألماني فرنباغ: ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلاّ بصعوبة” الفصحى لغة القرآن للأستاذ أنور الجندي ص:303.
أما المستشرقين المغرضين فنذكر منهم: نللينو الذي كتب دراسة عن عامية مصر، وسيانكو فسكي عن عامية المغرب وتونس، وإلياس برازين عن عامية حلب، وليوربال عن عامية الجزائر، والألماني سبيتا الذي دعا عام 1880م إلى إحلال العامية بدل الفصحى. ودعا إلى دراسة اللهجات كثيرون منهم: أنيس فريحة ألقى محاضرات في مراكز اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية عن اللهجات وأساليب دراستها عام 1955م وسارعت اللجنة بطباعتها (انظر الاتجاهات الوطنية 2/377).
وكولان الذي دعا إلى عامية مغربية؛ ولويس ماسينون (1883-1963) الذي ألقى في (كوليدج دي فرانس) في باريس محاضرة في جمع من الشباب العربي سنة 1929م، جاء فيها: “إنه لا حياة للغة العربية إلا إن كتبت بحروف لاتينية”.
وويليام ويلكوكس الذي دعا عام 1926م إلى هجر العربية، وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية وزعم أن: (العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة).
وقال “موريس لوجلي” في مقالة له سنة 1921م: “إن التعريب سيقود البربر إلى إســلام تــام ونهائي، ..علينا أن نُقلع في كل مكان عن الحديث باللغة العربية، وإعطاء الأوامر بالعربية إلى قوم هم مجبرون على فهمنا وإجابتنا.. ولذلك ينبغي العمل قبل كل شيء على تحويل مصالح الشعب المغربي في اتجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إن أمكن، وليس هذا بدافع عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح للهدف المبتغى، والنتائج المتوخاة لصالح قضيتنا”.
ومن هنا يتبين لنا البون الشاسع بين من درس العربية دراسة علمية نزيهة بعيدة عن الأهواء والمطامع الدنيوية؛ وبين من درسها ليعلم كيف ينفذ إليها ويدمرها من داخلها؛ ويتبين لنا أيضا مرجعية من يرفع عقيرته اليوم في زمن التكتلات والتجمعات بالدعوة إلى التفرقة بين أبناء اللغة الواحدة والدين الواحد، فأين يا ترى يمكن أن نضع أمثال بنشمسي صاحب المجلة اليهودية نيشان وأختها من الرضاعة الأحداث المغربية وكل الكتاب العلمانيين الذين يعادون اللغة العربية ويدعمون الدعوة إلى العامية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *