صور ونماذج من تغيير علماء المالكية للمنكر في المجتمع

اشتهر علماء المالكية منذ القدم بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقفهم الصارم اتجاه كل المنكرات التي تظهر في المجتمع، وذلك حماية لمعالم الشرع، وحفظا على شعائر الإسلام.
وبلغت شهرتهم بذلك حتى ذكر في تراجمهم أنهم كانوا ملتزمين به، ففي الصلة لابن بشكوال (224) في ترجمة عبد الله بن عبد الرحيم أبي محمد الطليطلي: وكان قد التزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يتولى ذلك بنفسه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وألف في هذا المعنى ديوانا، وهو كتاب الأمر والنهي.
وسنذكر في هذا المقام صورا ونماذج لمناكير شاع وقوعها وكثرت المجاهرة بها في مجتمعنا حتى صارت مألوفة معتادة، علما أنه كان لعمائنا المالكية الموقف الواضح والحازم حيالها، نذكرها حتى تكون المبادرة مصروفة إلى إزالتها، والعناية موقوفة على تفقدها وإحالتها، وتطهير المواضع ونفوس الناس عن ملازمتها، ففي الاطلاع عليها تنبيه على ما نذكره من أشباهها وأمثالها، حتى يتيقظ لذلك من علم حدود الشرع، وسعى في مصالح الخلق.
وسنقتصر على ما ورد في كتاب تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام لابن المناصف محمد بن عيسى المراكشي (المتوفى سنة 620 هـ)، علما أن كتب ومراجع علمائنا المالكية الأخرى طافحة بمثل ما سنذكر.

[ترك الصلاة]
فمن ذلك ما اشتهر كونه، وعرف بضرورة الأحوال وجوده، من ترك كثير من الناس وجمهور العوام القيام بصلاة الفرض التي هي الدين، وفصل ما بين الكفرة والمؤمنين، قال رسول صلى الله عليه وسلم: “بين الرجل وبين الشرك، أو قال: الكفر ترك الصلاة” رواه مسلم.
وهذا أهم ما ينبغي الاهتمام به، ويحق على القضاة وسائر الحكام وآحاد المسلمين القيام فيه، وبذل الجد والاجتهاد في تفقد أحوال من ظاهره التقصير والإهمال.
وعلى الحكام موالاة أخذ الناس بذلك، والاشتداد على الكافة فيه قبل كل شيء من سائر الأحكام.
ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. رواه مالك.

[شهود الشابات الجمعة]
ومن ذاك حضور بعض النساء المتوقى أمرهن كالشابات الممتلئات لحما، اللاتي تتوقع معهن الفتنة مساجد الجمعات، وفي ذلك ضرر كثير، وفساد كبير، وإذا أدى حضورهن إلى هذا، فهو منكر يجب قطعه، ومنعهن المسجد لأجله. فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها من دون هذا فقيل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعهن من الجمعات، فقالت: لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن. البخاري ومسلم.
فأين زمانها رضي الله عنها حين قالت ذلك من هذا الزمان، وانتشار البدع والحدثان، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
[ترك شهود الجمعة]
ومن ذلك إهمال كثير من الناس وأهل الأسواق والحرف والأجراء شهود صلاة الجمعة، وهي من فروض العيان على كل رجل مكلف وغير مريض ولا مسافر، لا يسع أحد من أهلها التخلف عنها لغير عذر، وقد تمالأ كثير من أهل الصنائع اليوم، والأجراء وغيرهم، على تركها واطراح حضورها، وساعدهم على ذلك كثير من الخاصة والأعيان الذين يستعملونهم استكثارا بعملهم في الوقت المستحق لحضور الصلاة، وربما كان في هذا النوع من لا يصلي أصلا، جمعة ولا غيرها، ما دام على شغله، فيجب على الولاة البحث عن هؤلاء، والتنقيب عمن عرف عنه ذلك، والاشتداد على فاعله، والمساعدة عليه، واضطرار الكافة إلى شهود الجمعة بما يؤدي إليه الاجتهاد، ويقتضيه النظر والحال إن شاء الله تعالى.

[الغناء المحرم]
ومن ذلك ما اشتهر عن قوم بأعيانهم من منكر عرفوا به ونسبوا إليه كمتخذي الملاهي وأنواع الغناء المحرم والآلات والزمر صناعة وحرفة يكتسبون بها، ويستأجرون عليها عند السرور والحزن مثل الزفانين (الزنف: الرقص)، والمغنين وسائر الملهين بما لا يحل لهم، فهم أعوان الشياطين في تحريك النفوس لكل شر، وتوثيب أهل المعاصي على كل نكر.
فينبغي للقاضي ابتداء البحث والكشف عمن شهر بذلك وارتسم به، والقبض عمن وجد منهم، وإبلاغ الزجر فيهم، والوعيد إلى ما يرجى به توبة من يغلب على الظن إنابته، ويعاقب في كف هذا الصنف من الرجال والنساء وتفقد حالهم أبدا، فهم منشأ الفتنة، ومثار أسباب الفساد.

[تعرض الفساق لنساء المسلمين]
ومن ذلك تعرض الفساق وأهل الشر والدعارة لحرم المسلمين وأعراضهم باتخاذهم المجالس على قوارع الطرق لأذى المارين من المسلمين، إما بإطلاق القول فيهم من الغيبة ونشر العيوب، والهجن في المنطق. وإما بالتعرض للنساء، والكشف عن عوراتهن، والاطلاع على محارمهن بالجلوس في مظان ذلك من أبواب الحمامات، ومواضع تكررهن، طلبا لمخاتلة الكشف عليهن، واستمالتهن بالتعريض، والمخالسة بالكلام، وما أشبه ذلك من صنوف المنكر، فواجب فيمن عرف بمثل هذا المبالغة في نهيه وزجره، والعنف عليه، والعقوبة إن كان لذلك وجه، ويمنع هؤلاء الصنف ومن يتهم بمثله من اتخاذ المجالس في مثل طرق المسلمين، ويستظهر عليهم بالوعيد الصادق والقهر المانع.
[الدور المعدة للخمر والفساد]
ومن ذلك الديار المعروفة بالفساد وإلف المعاصي، كبيع الخمر، والجمع بين الفساق ونحو ذلك، فما عرف منها بهذا وجب البحث عن سكانه ومن يتهم بذلك من أهلها واجتهد في تنكيله وعقوبته بما ثبت عليه من ذلك، ثم إن أمنت عودته وإلا كلف الانتقال والجلاء عن موضعه الذي عرف فيه بالشر، واعتيد غشيانه لذلك، وجلب إليها أهل الصلاح والخيرة.
ففي مثل هذا حسم لمادة هذا المنكر إن شاء الله تعالى.
[استرسال النساء في الملاهي]
وكذلك غيرهم من أصناف الفساق المجاهرين بأنواع المناكر، كاسترسال النساء حالتي السرور والحزن في الإعلان بأنواع الملاهي البادية، وإظهارها على الأصوات العالية في أسراب يتهادين على تلك الحال من موضع إلى آخر، ويتعارفنه بينهن بالزحف، وربما اجتمع إليهن الرجال للنظر والتعرض ونحو ذلك، فواجب مهما عثر على شيء من ذلك القبض على فاعله، وإبلاغ العقوبة فيه من مثله..
فينبغي تفقد مثل هذه الأنواع في الشوارع والمحلات وحيث يبدو أثر المجاهرة به، تفقدا كافئا لأهله، ورادعا عن مثله، يعظم الله به الأجر، ويدرأ به علائق الشر.
[تبرج النساء]
ومن ذلك تبرج النساء المتصرفات بأنواع الزينة البادية، وأسباب التجمل الظاهرة على حال اختيال في المشي، واستعمال منتشر الطيب، واستظهار ما يستدعي الفتنة، فمثل هؤلاء ينبغي منعهن من التصرف على هذه الحالة.

[تكديس الأوساخ في الشوارع]
ومن ذلك اتخاذ بعض الناس ما يؤول إلى أذى المسلمين، والتضييق في الشوارع عليهم كتكادس المرحاضات المستخرجة من سروب المحلة وقنوات تلك الحومة، وتركها كذلك في المواضع الضيقة بحيث يتنجس المار، وقد يقع فيها الصبيان، والماشي ليلا، وربما كان المطر ومال بعض ذلك مع الماء وخالط كثيرا من طرقات المسلمين، فعظمت المضرة، واشتدت المصيبة.
[قطر ميازيب السطوح بالأوساخ]
وكذلك ما يكون في بعض السطوح من قطر ميازيب تجري بغسالة ونجاسة في موضع ضيق، لا يكاد المار يسلم من شرارها.
[إذاية البهائم]
ومن ذلك ما يستخفه بعض الناس من أذى البهائم، والعنف على الدواب، كإثقالها بالأحمال التي لا يستقل بها، وإرهاقها في سرعة المشي بالضرب والزجر الشديد، حتى يستخرج منها فوق وسعها، مثلما اعتيد فعله الآن من حمالي الزرع، ونقالي الحجارة والجص، والخدمة من الزمالين وغيرهم، فهذا من المناكر التي يجب الاحتساب فيها، ومنعهم منها، وصرفهم على كل حال عنها، وسواء كانت الدابة لمثقلها أو لغيره، ولا حجة له في كونها ملكه، فإن الحيوان محترم، وحفظ النفوس واجب..
[بيع التماثيل]
وكذلك بيع التصاوير والأشكال المتخذة على هيئة الحيوان، كنحو ما يستعمل لجري الماء في الحمامات والديار ونحوها على أشكال الأسد، وغيره من جنس الحيوان. وكالتصاوير التي تستعمل للصبيان في الأعياد والمواسم.
كل ذلك منكر لا يحل، ويجب تغييره، والمنع من جميعه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *